Hukum Istighosah pada Nabi Ulama Ziarah Kubur Sumpah selain Allah

Hukum Istighosah istighatsah (meminta tolong) pada Nabi Ulama Ziarah Kubur Sumpah selain Allah
Hukum Istighosah pada Nabi Ulama Ziarah Kubur Sumpah selain Allah

حكم الاستغاثة بالأنبياء والصالحين- حكم السفر لزيارة قبور الصالحين – حكم الحلف بغير الله
(غير مصنفة)

انتشرت مجموعة من الشباب الذي يأتي بفتاوى متطرفة لا أصل لها في الفقه السليم المعتدل، وللأسف فإن العديد من الناس البسطاء ينجرفون وراء هذا التيار رغم أن لدينا خطباء معتدلين في قريتنا لا يوافقون على هذه الفتاوى المتطرفة. وإيمانًا منا بدوركم المحوري في الدعوة، وحرصكم على أن يكون شباب مصر خيرًا لبلدهم نرجو من سيادتكم الرد على هذه الفتاوى المرفقة بهذا الخطاب حتى يتم تصحيح هذه المفاهيم الخاطئة.

ونص هذه الفتاوى (سنذكر نص السؤال وجوابهم عليه):
* السؤال الأول: هل الاستغاثة بالأنبياء والأولياء والصالحين الأموات أو الغائبين كفر أكبر؟
وكان جوابهم عليه : أن الاستغاثة بالأنبياء والأولياء والصالحين الأموات أو الغائبين شرك أكبر يخرج مَن فعل ذلك من ملة الإسلام لقوله سبحانه: ﴿وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ﴾، وقوله عز وجل: ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوَهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ﴾.

* السؤال الثاني: هل تجوز نية السفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين مثل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وغيره، وهل هذه الزيارة شرعية أم لا؟

وكان جوابهم عليه : لا يجوز شد الرحال لزيارة قبور الأنبياء والصالحين وغيرهم، بل هو بدعة، والأصل في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِي هَذَا، وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى»، وقال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ». وأما زيارتهم دون شد رحال فسنة، لقوله صلى الله عليه وسلم «زُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمُ الْآخِرَةَ» أخرجه مسلم في صحيحه.
* السؤال الثالث: هل يجوز الحلف بغير الله؟ وما حكم من يقول: “والنبي تعمل كذا”؟ وهل يدخل هذا في الحلف بغير الله؟
وكان جوابهم عليه : كل ذلك حرام وشرك؛ لأنه لا يجوز الحلف بغير الله، لقوله عليه الصلاة والسلام: «أَلَا إِنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، فَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ» متفق عليه، وفي رواية لأبي داود والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: «لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ وَأُمَّهَاتِكُمْ، وَلَا تَحْلِفُوا بِاللَّهِ إِلَّا وَأَنْتُمْ صَادِقُونَ»، ولما رواه أبو داود والترمذي بإسناد صحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ كَفَرَ أَوْ أَشْرَكَ».

نرجو من سيادتكم الرد على هذه الفتاوى التي يذكرها هؤلاء.

الجـــواب
ينبغي أن نقدم بين يدي الرد أصولًا ثلاثةً يجب على المسلم معرفتها ليحذر التكفير:

• أولًا: الأصل في الأفعال التي تصدر من المسلم أن تُحمَل على الأوجه التي لا تتعارض مع أصل التوحيد، ولا يجوز أن نبادر برميه بالكفر أو الشرك؛ فإن إسلامه قرينة قوية توجب علينا ألا نحمل أفعاله على ما يقتضي الكفر، وتلك قاعدة عامة ينبغي على المسلمين تطبيقها في كل الأفعال التي تصدر من إخوانهم المسلمين، وقد عبر الإمام مالك إمام دار الهجرة رحمه الله تعالى عن ذلك بقوله: “من صدر عنه ما يحتمل الكفر من تسعة وتسعين وجهًا ويحتمل الإيمان من وجه حُمِل أمره على الإيمان”، ولنضرب لذلك مثالين قوليّيْن وثالثًا فعليًّا.

أما المثالان القوليان فأحدهما يتعلق بأفعال الله تعالى، والآخر يتعلق بأفعال العباد:

– فأما ما يتعلق بأفعال الله تعالى: فالمسلم يعتقد أن الله تعالى هو القادر على إحياء الموتى بخلقه وإيجاده الذاتي سبحانه، ويعتقد أن المسيح عليه السلام يحيي الموتى بإذن الله، وهو غير قادر على ذلك بنفسه وإنما بقوة الله وحوله، والنصراني يعتقد أنه يحيي الموتى، ولكنه يعتقد أن ذلك بقوة ذاتية، وأنه هو الله، أو ابن الله، أو أحد أقانيم الإله كما يعتقدون. وعلى هذا فإذا سمعنا المسلم الموحد يقول: “أنا أعتقد أن المسيح يحيي الموتى” وهي نفس المقولة التي يقولها المسيحي فلا ينبغي أن نظن أن المسلم تنصر بهذه الكلمة، بل نحملها على المعنى اللائق بانتسابه للإسلام ولعقيدة التوحيد.

– وأما ما يتعلق بأفعال العباد: فالمسلم يعتقد أن الاستغاثة بمعنى العبادة لا تكون إلا لله، وأن الاستغاثة بالمخلوق فيما يمكنه الإغاثة فيه ليست عبادة بل هي طلب مشروع للأسباب، فإذا سمعنا مسلمًا يستغيث بغير الله تعالى فإننا نحمل ذلك على طلب السببية لا العبادة، ولا يجوز أن نظن به الشرك لأجل ذلك؛ استصحابًا لإسلامه الذي يستلزم كونه موحدًا لربه سبحانه.
قال الإمام الأصولي شمس الدين الجزري “شارح منهاج الإمام البيضاوي”: “اعتقاد التوحيد من لوازم الإسلام؛ فإذا رأينا مسلمًا يستغيث بمخلوق علمنا قطعًا أنه غير مشرك لذلك المخلوق مع الله عز وجل، وإنما ذلك منه طلبُ مساعدةٍ أو تَوَجُّهٌ إلى الله ببركة ذلك المخلوق” اهـ نقلًا عن الإمام نجم الدين الطوفي الحنبلي في كتابه (الإشارات الإلهية في المباحث الأصولية، 3/ 90، ط. المكتبة المكية بمكة المكرمة).
وأما المثال الفعلي: فالمسلم يعتقد أيضًا أن العبادة لا يجوز صرفها إلا لله وحده، والمشرك يعتقد جواز صرفها لغير الله تعالى، فإذا رأينا مسلمًا صدر منه لغير الله ما يحتمل العبادة وغيرها وجب حمل فعله على ما يناسب اعتقاده كمسلم؛ لأن من ثبت له عقد الإسلام بيقين لم يزل عنه بالشك والاحتمال؛ ولذلك لَمّا سجد معاذ بن جبل رضي الله عنه للنبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم – فيما رواه ابن ماجه وصححه ابن حبان– نهاه النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم عن ذلك، ولكنه لم يصف فعله هذا بالشرك أو الكفر، وبدهي أن معاذًا رضي الله عنه –وهو أعلم الأمة بالحلال والحرام– لم يكن يجهل أن السجود عبادة وأن العبادة لا يجوز صرفها لغير الله، ولكن لما كان السجود يحتمل وجهًا آخر غير عبادة المسجود له لم يجز حمله على العبادة إذا صدر من المسلم أو تكفيره بحال، وفي ذلك يقول الحافظ الذهبي: “ألا ترى الصحابةَ من فرط حبهم للنبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قالوا: ألا نسجد لك؟ فقال: لا. فلو أذن لهم لسجدوا سجود إجلال وتوقير لا سجود عبادة، كما قد سجد إخوة يوسف عليه السلام ليوسف، وكذلك القول في سجود المسلم لقبر النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم على سبيل التعظيم والتبجيل لا يكفر به أصلًا، بل يكون عاصيًا، فلْـيُعَرَّفْ أن هذا منهيٌّ عنه، وكذلك الصلاة إلى القبر” اهـ من (معجم الشيوخ للإمام الذهبي، ص: 56).
ويقول الشيخ ابن تيمية الحنبلي في (مجموع الفتاوى، 4/ 360 – 361): “وأما السجود فشريعة من الشرائع؛ إذ أمرنا الله تعالى أن نسجد له، ولو أمرنا أن نسجد لأحد من خلقهِ غيرِه لسجدنا لذلك الغير طاعةً لله عز وجل؛ إذ أحب أن نعظم من سجدنا له، ولو لم يفرض علينا السجود لم يجب البتة فعله، فسجود الملائكة لآدم عبادة لله وطاعة له وقربة يتقربون بها إليه، وهو لآدم تشريف وتكريم وتعظيم. وسجود إخوة يوسف له تحية وسلام؛ ألا ترى أن يوسف لو سجد لأبويه تحية لم يُكره له. ولم يأت أن آدم سجد للملائكة بل لم يؤمر آدم وبنوه بالسجود إلا لله رب العالمين، ولعل ذلك -والله أعلم بحقائق الأمور- لأنهم أشرف الأنواع وهم صالحو بني آدم ليس فوقهم أحد يحسن السجود له إلا الله رب العالمين” اهـ.
والإخلال بهذا الأصل الأصيل هو مسلك الخوارج؛ حيث وضَّح ابن عمر رضي الله عنهما أن هذا هو مدخل ضلالتهم فقال: “إِنَّهُمُ انْطَلَقُوا إِلَى آيَاتٍ نَزَلَتْ فِي الْكُفَّارِ فَجَعَلُوهَا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ” علقه البخاري في صحيحه ووصله ابن جرير الطبري في “تهذيب الآثار” بسند صحيح.

• ثانيًا: هناك فارق كبير وبون شاسع ما بين الوسيلة والشرك؛ فالوسيلة مأمور بها شرعًا في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [المائدة: 35]، وأثنى سبحانه على من يتوسلون إليه في دعائهم فقال: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا﴾ [الإسراء: 57]، والوسيلة في اللغة: المنـزلة، والوصلة، والقربة؛ فجماع معنـاها هو: التقرب إلى الله تعالى بكل ما شرعه سبحانه، ويدخل في ذلك تعظيم كل ما عظمه الله تعالى من الأمكنة والأزمنة والأشخاص والأحوال؛ فيسعى المسلم مثلًا للصلاة في المسجد الحرام والدعاء عند قبر المصطفى صلَّى الله عليه وآله وسلَّم والملتزم تعظيمًا لما عظمه الله من الأماكن، ويتحرى قيام ليلة القدر والدعاء في ساعة الإجابة يوم الجمعة وفي ثلث الليل الآخر تعظيمًا لما عظمه الله من الأزمنة، ويتقرب إلى الله بحب الأنبياء والأولياء والصالحين تعظيمًا لمن عظمه الله من الأشخاص، ويتحرى الدعاء حال السفر وعند نزول الغيث وغير ذلك تعظيمًا لما عظّمه الله من الأحوال.. وهكذا، وكل ذلك داخل في قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ [الحج: 32].
أما الشرك فهو صرف شيء من العبادة لغير الله على الوجه الذي لا ينبغي إلا لله تعالى، حتى ولو كان ذلك بغرض التقرب إلى الله كما قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾ [الزمر: 3]، وإنما قلنا: “على الوجه الذي لا ينبغي إلا لله تعالى” لإخراج كل ما خالف العبادة في مسماها وإن وافقها في ظاهر اسمها؛ فالدعاء قد يكون عبادة للمَدْعُوّ ﴿إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَّرِيدًا﴾ [النساء: 117] وقد لا يكون ﴿لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضًا﴾ [النور: 63]، والسؤال قد يكون عبادة للمسؤول ﴿وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ﴾ [ النساء: 32 ] وقد لا يكون ﴿لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ [المعارج: 25]، والاستعاذة قد تكون عبادة للمستَعاذ به ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ [النحل: 98] وقد لا تكون؛ كما في صحيح مسلم من حديث أبي مسعود البدري رضي الله عنه أنه كان يضرب غلامه، فقال: أعوذ برسول الله، فتركه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «وَاللَّهِ لَلَّهُ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَيْهِ»، فأعتَقَه، والاستعانة قد تكون عبادة للمستعان به ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: 5] وقد لا تكون ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾ [البقرة: 45]، والاستغاثة قد تكون عبادة للمستغاث به ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ﴾ [الأنفال: 9] وقد لا تكون ﴿فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ﴾ [القصص: 15]، والقنوت قد يكون عبادة للمقنوت له وقد لا يكون؛ كما جمع الله تعالى ذلك في قوله سبحانه: ﴿وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا﴾ [الأحزاب: 31]، والطاعة قد تكون عبادة للمطاع وقد لا تكون؛ كما في الأمر بطاعة الله ورسوله وطاعة العبد لسيده وطاعة الزوجة لزوجها وطاعة الولد لأبيه، والحب قد يكون عبادة للمحبوب وقد لا يكون؛ كما جمع النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ذلك في قوله: «أَحِبُّوا اللَّهَ لِمَا يَغْذُوكُمْ مِنْ نِعَمِهِ، وَأَحِبُّونِي بِحُبِّ اللَّهِ، وَأَحِبُّوا أَهْلَ بَيْتِي بِحُبِّي» رواه الترمذي وصححه الحاكم.. وهكذا، أي أن الشرك إنما يكون في التعظيم الذي هو كتعظيم الله تعالى كما قال عز وجل: ﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 22] وكما قال سبحانه: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًا لِلَّهِ﴾ [البقرة: 165].
وبذلك يتبين لنا فصل ما بين الوسيلة والشرك؛ “فالوسيلة” نعظم فيها ما عظمه الله، أي أنها تعظيم بالله، والتعظيم بالله تعظيم لله تعالى كما قال جل جلاله: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى القُلُوبِ﴾ [الحج: 32]، كما أن طاعة الرسول طاعة لله: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾ [النساء: 80]، ومبايعته مبايعة لله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ [الفتح: 10].
أمـا “الشرك” فهو تعظيم مع الله أو تعظيم من دون الله؛ ولذلك كان سجود الملائكة لآدم عليه السلام إيمانًا وتوحيدًا وكان سجود المشركين للأصنام كفرًا وشركًا مع كون المسجود له في الحالتين مخلوقًا، لكن لما كان سجود الملائكة لآدم عليه السلام تعظيمًا لما عظمه الله كما أمر الله كان وسيلة مشروعة يستحق فاعلها الثواب، ولما كان سجود المشركين للأصنام تعظيمًا كتعظيم الله كان شركًا مذمومًا يستحق فاعله العقاب.
وعلى هذا الأصل في الفرق بين الوسيلة والشرك بَنَى جماعة من أهل العلم قولهم بجواز الحلف بما هو معظم في الشرع كالنبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، والإسلام، والكعبة، ومنهم الإمام أحمد رحمه الله تعالى في أحد قوليه؛ حيث أجاز الحلف بالنبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم معللًا ذلك بأنه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أحد ركني الشهـادة التي لا تتم إلا به؛ وذلك لأنه لا وجه فيه للمضاهاة بالله تعالى، بل تعظيمه بتعظيم الله له، وحمل هؤلاء أحاديث النهي عن الحلف بغير الله على ما كان من ذلك متضمنًا للمضاهاة بالله، بينما يرى جمهور العلماء المنع من ذلك أخذًا بظاهر عموم النهي عن الحلف بغير الله.
وفي بيان مأخذ الأولين وترجيحه يقول الإمام ابن المنذر رحمه الله تعالى: “اختلف أهلُ العِلم في معنَى النهي عن الحَلِف بغير الله، فقالت طائفة: هو خاصٌّ بالأيْمانِ التي كان أهلُ الجاهلية يحلفون به تعظيمًا لغير الله تعالى كاللات والعُزَّى والآباء، فهذه يأثَم الحالف بها ولا كَفَّارَة فيها، وأمَّا ما كان يَؤُولُ إلى تَعْظِيم الله كقولِه: وحَقِّ النَّبِيِّ، والإِسْلام، والحَجِّ، والعُمْرَةِ، والهَدْيِ، والصَّدَقَةِ، والعِتْقِ، ونحوها مِمَّا يُراد به تعظيمُ الله والقُرْبَةُ إليه فليس داخلًا في النَّهْي، وممَّنْ قال بذلك أبو عُبَيْدٍ وطائفةٌ مِمَّنْ لَقِينَاه، واحْتَجُّوا بِمَا جاء عن الصَّحابة مِن إيجابهم على الحالف بالعِتْقِ والهَدْيِ والصَّدَقَةِ ما أَوْجَبُوهُ مَعَ كَوْنهم رَأَوْا النَّهْيَ المَذْكُور، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ عِنْدهمْ لَيْسَ عَلَى عُمُومه؛ إِذْ لو كان عامًّا لَنَهَوْا عَنْ ذَلِكَ ولم يُوجِبُوا فيه شَيْئًا” اهـ نقلًا من فتح الباري للحافظ ابن حجر (11/ 535).
فإذا ما حصل بعد ذلك خلاف في بعض أنواع الوسيلة كالتوسل بالصالحين والدعاء عند قبورهم والتمسح بها مثلًا أو حصل خطأ فيها من بعض المسلمين فيما لم يشرع كونه وسيلة كالسجود للقبر فإنه لا يجوز أن ننقل هذا الخطأ أو ذلك الخلاف من دائرة الوسيلة إلى دائرة الكفر والشرك؛ لأننا نكون بذلك قد خلطنا بين الأمور وجعلنا التعظيم بالله كالتعظيم مع الله، والله تعالى يقول: ﴿أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ [القلم: 35–36].

• ثالثًا: إن هناك فارقًا أيضًا ما بين اعتقاد كون الشيء سببًا واعتقاده خالقًا ومؤثرًا بنفسه؛ فإن أهل السنة يعتقدون أنه لا مؤثر في الكون على الحقيقة إلا الله سبحانه، وأن الأسباب لا تثمر المسبَّباب بنفسها وإنما بخلق الله لها، تمامًا كما مثلنا في الأصل الأول من اعتقاد المسلم أن المسيح عليه السلام سبب في الخلق بإذن الله في مقابلة اعتقاد النصراني أنه يفعل ذلك بنفسه، وإضافة الأفعال إلى أسبابها صحيحة لغةً وشرعًا وعقلًا، وما كان لله تعالى على جهة الخلق والتأثير جازت إضافته للمتسبب فيه على جهة السببية؛ فقد نَسَبَ الله التَّوَفِّيَ إلى نفسه سبحانه فقال: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا﴾ [الزمر: 42]، ونسبه إلى رسله فقال: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ﴾، [الأنعام: 61]، ونسب إلى نفسه الخلق والشفاء والإحياء والإنباء بالمغيَّبات، ونسب ذلك كله أيضًا إلى عيسى عليه السلام فقال مخبرًا عنه: ﴿أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 49]. فإذا رأينا مسلمًا يطلب أو يسأل أو يستعين أو يستغيث أو يرجو نفعًا أو ضرًّا من غير الله فإنه يجب علينا قطعًا أن نحمل ما يصدر منه على ابتغاء السببية لا على التأثير والخلق؛ لِمَا نعلمه من اعتقاد كل مسلم أن النفع والضر الذاتيين إنما هما بيد الله وحده، وأن هناك من المخلوقات ما ينفع أو يضر بإذن الله، ويبقى الكلام بعد ذلك في صحة كون هذا المخلوق أو ذاك سببًا من عدمه.
إذا ما تقررت هذه الأصول الثلاثة فإنه يجب علينا استحضارها في الكلام على حكم الاستغاثة أو طلب المدد من الأولياء والصالحين أحياءً ومنتقلين، فإذا علمنا أننا نتكلم في أقوال وأفعالٍ تصدر من مسلمين، وأن هؤلاء المسلمين يزورون هذه الأضرحة والقبور اعتقادًا منهم بصلاح أهلها وقربهم من الله تعالى، وأن قبور الصالحين روضات من رياض الجنة، وأن زيارة القبور عمل صالح يتقرب ويتوسل به المسلم إلى الله تعالى خاصة إذا كان أصحابها أولياء صالحين، وأن الكلام إنما هو في جواز بعض ما يصدر من هؤلاء المسلمين من عدمه، وأن في بعض أفعالهم خلافًا بين العلماء وفي بعضها خطأً محضًا لا خلاف فيه –إذا علمنا ذلك كله فإنه يتبين لنا بجلاء أنه لا مدخل للشرك ولا للكفر في الحكم على أقوال هؤلاء المسلمين وأفعالهم في قليل ولا كثير أو من قَبِيل أو دَبِيـر، بل ما ثم إلا الخلاف في بعض الوسائل والخطأ المحض في بعضها الآخر من غير أن يستوجب شيء من ذلك تكفيرًا لمن ثبت إسلامه بيقين.

وفيما يلي توضيح الصواب فيما جاء في الفتاوى الواردة في السؤال:
* أولًا: دعوى أن الاستغاثة بالأنبياء والأولياء والصالحين الأموات أو الغائبين كفر أكبر هي دعوى باطلة؛ تردها الأدلة العقلية والنقلية، ويلزم منها تكفير السواد الأعظم من المسلمين سلفًا وخلفًا. والاستدلال عليها بالآيات الواردة في عبادة غير الله غير سديد؛ لأنه عينُ منهج الخوارج الذي يعمد فيه أصحابه للآيات التي وردت في تكفير المشركين بعبادتهم غير الله فينزلونها على المسلمين في توسلهم بالأنبياء والصالحين واستغاثتهم بهم كما سبق إيضاحُه.
قال العلامة الشوكاني في رسالته (الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد): “ما يورده المانعون من التوسل إلى الله بالأنبياء والصلحاء من نحو قوله تعالى: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾ [الزمر: 3]، ونحو قوله تعالى: ﴿فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾ [الجن: 18]، ونحو قوله تعالى: ﴿لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ﴾ [الرعد: 14] ليس بوارد، بل هو من الاستدلال على محل النزاع بما هو أجنبي عنه؛ فإن قولهم: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾ مُصرِّحٌ بأنهم عبدوهم لذلك. والمتوسل بالعالم مثلًا لم يعبده، بل عَلِم أنه له مزية عند الله بحمله العلم، فتوسل به لذلك” اهـ.
واستغاثة المسلم أو طلبه المددَ من الأنبياء والأولياء والصالحين هو محمول على السببية لا على التأثير والخلق؛ حملًا لأقوال المسلمين وأفعالهم على السلامة على ما هو الأصل كما سبق.
ويتبين وجه الحق والصواب هنا بالكلام في ثلاثة مقامات:
المقام الأول: أن الموت في نفسه ليس فناءً محضًا أو عدَمًا لا حياة فيه؛ كما يقول الماديون والملاحدة، بل هو انتقال من حياة إلى حياة، وقد أثبت الشرع أن للموتى إدراكًا، وأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن سماعهم أشد من سماع الأموات في نحو قوله صلى الله عليه وآله وسلم في حق موتى الكفار: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ» متفق عليه، ودعوى الخصوصية لا دليل عليها، بل وترُدُّها رواية البخاري من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: «مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ مِنْهُمْ». وإذا كان الموت لا يحول بين الكفار وبين السمع والإدراك -مع ما هم فيه من سوء العاقبة- فلأن يسمع موتى المؤمنين مِن باب أَوْلى وأحرى؛ وذلك لأن إدراك الروح خارج الجسد أوسع وأقوى من إدراكها وهي داخل الجسد الذي هو عائقٌ لها.
وقال الشيخ الشنقيطي في (أضواء البيان): “اعلم أن الذي يقتضي الدليل رجحانه: هو أن الموتى في قبورهم يسمعون كلام من كلّمهم.. وإيضاح كون الدليل يقتضي رجحان ذلك مبني على مقدّمتين:
الأولى منهما: أن سماع الموتى ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في أحاديث متعدّدة؛ ثبوتًا لا مطعن فيه، ولم يذكر صلى الله عليه وآله وسلم أن ذلك خاص بإنسان ولا بوقت.
والمقدمة الثانية: هي أن النصوص الصحيحة عنه صلى الله عليه وآله وسلم في سماع الموتى لم يثبت في الكتاب ولا في السنة شيء يخالفها” اهـ.
كما أن الموت في حق الأنبياء والصالحين ارتقاء إلى حياة أكمل ودرجة أسمى؛ فقد أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الأنبياء بأنهم أحياء في قبورهم يصلون، كما نص القرآن على حياة الشهداء، في نحو قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ [البقرة: 154].
وقد جاءت في ذلك كله أحاديث كثيرة:
– كحديث عرض الأعمال على المصطفى واستغفاره لنا صلى الله عليه وآله وسلم؛ حيث قال: «حَيَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ تُحْدِثُونَ وَيَحْدُثُ لَكُمْ. وَمَمَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ، تُعْرَضُ عَلَيَّ أَعْمَالُكُمْ؛ فَمَا رَأَيْتُ مِنْ خَيْرٍ حَمِدْتُ اللَّهَ، وَمَا رَأَيْتُ مِنْ شَرٍّ اسْتَغْفَرْتُ اللَّهَ لَكُمْ» أخرجه البزار في “مسنده”، والحارث بن أبي أسامة في “مسنده”، والديلمي في “مسند الفردوس”، وصححه جمع غفير من الحفاظ؛ كالإمام النووي، وابن التين والقرطبي والقاضي عياض والحافظ ابن حجر والحافظ السيوطي في “الخصائص الكبرى” والمناوي في “فيض القدير” والملا علي القاري والخفاجي في “شرح الشفا” والزرقاني في “شرح المواهب”، وقال الحافظ العراقي في طرح التثريب: “إسناده جيد”، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: “ورجاله رجال الصحيح”.
– والأحاديث الواردة بأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يرد السلام على كل من يسلم عليه.
– وأنه مر على موسى عليه السلام وهو يصلي في قبره عند الكثيب الأحمر كما في البخاري، ثم رآه ببيت المقدس مع الأنبياء، ثم في السّماء السّادسة.
– وائتمام الأنبياء والمرسلين بالمصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) في الإسراء والمعراج..
إلى غير ذلك من الأدلة المتكاثرة والشواهد الظاهرة التي لا ينكرها إلا مكابر.
وقد صنف في ذلك جماعة من العلماء؛ فصنف الحافظ البيهقي جزءًا في “حياة الأنبياء في قبورهم”، وصنف الحافظ السيوطي رسالته “إنباء الأذكياء بحياة الأنبياء“، وهي مطبوعة ضمن كتابه “الحاوي للفتاوي” وقال في أولها (2/ 139، ط. دار الكتب العلمية): “حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في قبره هو وسائر الأنبياء معلومة عندنا علمًا قطعيًّا؛ لِمَا قام عندنا من الأدلة في ذلك، وتواترت بها الأخبار الدالة على ذلك، وقد ألف الإمام البيهقي رحمه الله تعالى جزءًا في حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في قبورهم” اه‍.
وقال الإمام أبو العباس أحمد بن عمر القرطبي (ت: 656هـ” صاحب “المفهم في شرح مسلم” فيما نقله عنه القرطبي المفسر في (التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة، ص: 459 – 460، ط. مكتبة دار المنهاج): “الموت ليس بعدم محض وإنما هو انتقال من حال إلى حال، ويدل على ذلك: أن الشهداء بعد قتلهم وموتهم أحياء عند ربهم يرزقون فرحين مستبشرين، وهذه صفة الأحياء في الدنيا، وإذا كان هذا في الشهداء كان الأنبياء بذلك أحق وأولى، مع أنه قد صح عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) “أن الأرضَ لا تأكلُ أجسادَ الأنبياء”، وأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد اجتمع بالأنبياء ليلة الإسراء في بيت المقدس وفي السماء وخصوصًا بموسى عليه السلام، وقد أخبرنا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بما يقتضي أن الله تبارك وتعالى يرد عليه روحه حتى يرد السلام على كل من يسلم عليه، إلى غير ذلك مما يحصل من جملته القطعُ بأن موتَ الأنبياء إنما هو راجعٌ إلى أن غُيِّبُوا عنا بحيث لا ندركهم وإن كانوا موجودين أحياء، وذلك كالحال في الملائكة؛ فإنهم موجودون أحياء ولا يراهم أحد من نوعنا إلا مَن خصه الله بكرامةٍ مِن أوليائه” اهـ، ونقله غيره من العلماء في كتبهم مُقِرِّين له كابن القيم الحنبلي في كتاب (الروح، ص: 36، ط. دار الكتب العلمية).
ونقل الحافظ السخاوي الإجماع على أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حيٌّ في قبره، فقال في (القول البديع، في الصلاة على الحبيب الشفيع (صلى الله عليه وآله وسلم)، ص: 335، ط. مؤسسة الريان): “ونحن نؤمن ونصدق بأنه (صلى الله عليه وآله وسلم) حيٌّ يُرزَق في قبره، وأن جسده الشريف لا تأكله الأرض، والإجماع على هذا” اهـ.
بل نقل الأئمة إجماع السلف وأهل السنة على إثبات إحياء الله تعالى لعموم الموتى في قبورهم:
قال الإمام سيف الدين الآمدي الشافعي في “أبكار الأفكار” في أصول الدين (4/ 332، ط. مطبعة دار الكتب والوثائق القومية): “اتفق سلف الأمة قبل ظهور الخلاف، وأكثرهم بعد ظهوره، على إثبات إحياء الموتى في قبورهم” اهـ.
وقال الإمام القرطبي المالكي في (التذكرة، ص: 369): “الله تعالى يحيي العبد المكلف في قبره برد الحياة إليه ويجعله من العقل في مثل الوصف الذي عاش عليه؛ ليعقلَ ما يُسْأَلُ عنه وما يُجيبُ به، ويفهمَ ما أتاه من ربه وما أعد له في قبره من كرامة أو هوان. وبهذا نطقت الأخبار عن النبي المختار، صلى الله عليه وسلم وعلى آله آناء الليل وأطراف النهار، وهذا مذهب أهل السنة والذي عليه الجماعةُ مِن أهل الملة، ولم تفهم الصحابةُ الذين نزل القرآن بلسانهم ولغتهم مِن نبيهم عليه السلام غيرَ ما ذكرنا. وكذلك التابعون بعدهم إلى هلم جرًّا، ولقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه -لما أخبر النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بفتنة الميت في قبره وسؤال منكر ونكير وهما الملكان له-: يا رسول الله أيرجع إليَّ عقلي؟ قال: «نعم»، قال: إذًا أكفيكهما؛ والله لئن سألاني سألتُهما، فأقول لهما: أنا ربي الله، فمن ربكما أنتما؟” اهـ.
وقال الإمام المجتهد تقي الدين السبكي الشافعي في كتابه (شفاء السقام في زيارة خير الأنام عليه الصلاة والسلام، ص: 425، تحقيق: حسين شكري): “وقد أجمع أهلُ السُّنّة على إثبات الحياة في القبور؛ قال إمام الحرمين في “الشامل”: “اتفق سلف الأمة على إثبات عذاب القبر، وإحياء الموتى في قبورهم، ورد الأرواح في أجسادهم”.
وقال الفقيه أبو بكر بن العربي في (الأمد الأقصى في تفسير الأسماء الحسنى): “إن إحياء المكلَّفين في القبر وسؤالهم جميعًا لا خلاف فيه بين أهل السنة” اهـ.
كما ورد في الشريعة مشروعية مخاطبة عموم الموتى وأعيانهم في حياتهم البرزخية؛ وأظهر مثال على ذلك أن من ألفاظ التشهد قول المصلِّي: “السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته”، وهو خطاب صريح للمصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد انتقاله للرفيق الأعلى، وصح عن الصحابة من غير نكير أنهم خاطبوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى؛ فروى البخاري في صحيحه أن أبا بكر الصديق كشف عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد وفاته فقبَّله وقال: “بأبي أنت وأمي، طبت حيًّا وميتًا، والذي نفسي بيده لا يذيقك الله الموتتين أبدًا”، ثم خرج، وروى أيضًا أن السيدة فاطمة رضي الله عنها قالت بعد وفاته (صلى الله عليه وآله وسلم): “يا أبتاه، أجاب ربًّا دعاه، يا أبتاه، من جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه، إلى جبريل ننعاه”.
ومشروعية مخاطبة الأموات ليست خاصَّةً بالأنبياء، فقد روى البيهقي في “السنن الكبرى” أن ابن عمر رضي الله عنهما كان إذا قدم من سفر دخل المسجد ثم أتى القبر فقال: “السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتاه”.
بل ورد ذلك أيضًا في غير الأنبياء وكُمَّل الأولياء؛ فصح عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَمُرُّ عَلَى قَبْرِ أَخِيهِ كَانَ يَعْرِفُهُ فِي الدُّنْيَا فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ إِلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ رُوحَهُ حَتَّى يَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ»، وفي رواية: «إِذَا مَرَّ الرَّجُلُ بِقَبْرٍ يَعْرِفُهُ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ رَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ وَعَرَفَهُ، وَإِذَا مَرَّ بِقَبْرٍ لَا يَعْرِفُهُ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ رَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ» رواه ابن أبي الدنيا في “القبور”، والصابوني في “المائتين”، والبيهقي في “شعب الإيمان”، وابن عبد البر في “الاستذكار” و”التمهيد”، والخطيب في “تاريخ بغداد”، وصححه ابن عبد البر وعبد الحق الإشبيلي في “أحكامه” والعراقي في “تخريج الإحياء”، والمناوي، واحتج به ابن القيم الحنبلي في كتاب (الروح، ص: 5)، ونقل ابن تيمية في (مجموع الفتاوى، 24/ 331) عن ابن المبارك أنه قال: ثبت ذلك عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
وكما ورد عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) مخاطبة موتى الكفار فقد ورد عنه أيضًا مخاطبة موتى المؤمنين والمسلمين، وذلك في السلام على أهل المقابر، وكان يُعَلِّم أصحابَه إذا خرجوا للمقابر أن يخاطبوا الموتى بقولهم: «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ» رواه مسلم وغيره.
كما ورد في الشرع أيضًا تلقين الميت، ولولا أنه يسمع التلقين وينتفع به لَمَا شُرِعَ ذلك.
قال الشيخ ابن القيم الحنبلي في كتاب (الروح، ص: 13): “وما أجرى الله سبحانه العادة قط بأن أُمّةً طبقت مشارق الأرض ومغاربها وهي أكمل الأمم عقولًا وأوفرها معارف تُطْبِقُ على مخاطبة من لا يسمع ولا يعقل وتستحسن ذلك لا ينكره منها منكر؛ بل سَنَّهُ الأول للآخر ويقتدي فيه الآخر بالأول، فلولا أن المخاطَب يسمع لكان ذلك بمنزلة الخطاب للتراب والخشب والحجر والمعدوم، وهذا وإن استحسنه واحد فالعلماء قاطبةً على استقباحه واستهجانه” اهـ.
المقام الثاني: أن الله تعالى جعل لأرواح الأنبياء والأولياء والمؤمنين في حياة البرزخ مِن سعة التصرف ونفع الأحياء بإذنه تعالى بل وعبادة التشريف واستجابة الدعاء ما ليس للأحياء.
فهذا النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم يخبر بأنه يرد السلام على كل مَن سلَّم عليه بعد وفاته، والسلام دعاءٌ وردُّه أيضًا دعاء، وإذا رد المصطفى السلام فهذا مدد عظيم واصل لمن استمده من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالسلام عليه، والمدد النبوي الشريف مستمر بلا شك في الحياة البرزخية له (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا يسع أحدًا إنكارُه، حتى إن الحافظ ابن عبد الهادي الحنبلي ينقل في ترجمة ابن تيمية في (العقود الدرية، ص: 491، ط. دار الكاتب العربي) شعر من يمدح ابن تيمية بقوله:
حوى من المصطفى علمًا ومعرفةً … وجـاءه منه إمـــــــــــــــدادُ النوالات
وهذا سيدنا موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام تنتفع به الأمة المحمدية في حياته البرزخية؛ حين أشار على المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) في رحلة المعراج أن يسأل الله تعالى تخفيف الصلوات المكتوبة من خمسين إلى خمس.
ولا يختص ذلك بالأنبياء، بل هو عام في المؤمنين كما جاء في الحديث الوارد في رد الميت السلامَ على الحي، والسلام دعاء كما سبق. وروى الإمام أحمد في مسنده والحكيم الترمذي في “نوادر الأصول” عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «إِنَّ أَعْمَالَكُمْ تُعْرَضُ عَلَى أَقَارِبِكُمْ وَعَشَائِرِكُمْ مِنَ الْأَمْوَاتِ، فَإِنْ كَانَ خَيْرًا اسْتَبْشَرُوا بِهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ قَالُوا: اللَّهُمَّ لَا تُمِتْهُمْ حَتَّى تَهْدِيَهُمْ كَمَا هَدَيْتَنَا»، وله شاهد من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عند الطيالسي في “مسنده”، وشاهد آخر من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه في “المعجم الكبير” و”الأوسط” و”مسند الشاميين”، وله شاهد من قول أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أخرجه ابن المبارك في “الزهد” وابن أبي الدنيا في “المنامات”، وشاهد آخر من قول أبي الدرداء رضي الله عنه أخرجه ابن المبارك وأبو داود في “الزهد” وغيرهما، ولهما حكم الرفع؛ لأنهما مما لا يقال بالرأي.
وروى الإمام الطحاوي في “شرح مشكل الآثار” والحافظ أبو الشيخ في كتاب “التوبيخ” من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «أُمِرَ بِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ أَنْ يُضْرَبَ فِي قَبْرِهِ مِائَةَ جَلْدَةٍ، فَلَمْ يَزَلْ يَسْأَلُ وَيَدْعُو حَتَّى صَارَتْ جَلْدَةً وَاحِدَةً، فَجُلِدَ جَلْدَةً وَاحِدَةً»، وله شاهد عند الطبراني من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
وأخرج الإمام الحافظ عبد الرزاق الصنعاني في “تفسيره” (3/174، ط. دار الكتب العلمية) عن علي كرم الله وجهه في قوله تعالى: ﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾ قال: “خليلان مؤمنان وخليلان كافران؛ تُوُفِّيَ أحدُ المؤمنَيْنِ فبُشِّر بالجنة فذكر خليله فقال: اللهم إن خليلي فلانًا كان يأمرني بطاعتك وطاعة رسولك، ويأمرني بالخير وينهاني عن الشر، وينبئني أني ملاقيك، فلا تضله بعدي حتى تريه مثل ما أريتني، وترضى عنه كما رضيت عني”..
وقد بسط الشيخ ابن القيم الحنبلي رحمه الله في كتاب (الروح، ص: 102-103) الكلام على تصرف الروح وقدرتها على ما لا يقدر عليه الأحياء، فقال:
“ولا يضيق عقلك عن كون الروح في الملأ الأعلى تسرح في الجنة حيث شاءت وتسمع سلام المسلم عليها عند قبرها وتدنو حتى ترد عليه السلام، وللروح شأن آخر غير شأن البدن؛ وهذا جبريل صلوات الله وسلامه عليه رآه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وله ستمائة جناح منها جناحان قد سد بهما ما بين المشرق والمغرب وكان من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى يضع ركبتيه بين ركبتيه ويديه على فخذيه، وما أظنك يتسع بظنك أنه كان حينئذ في الملأ الأعلى فوق السماوات حيث هو مستقره وقد دنا من النبي هذا الدنو؛ فإن التصديق بهذا له قلوب خُلِقَتْ له وأُهِّلَتْ لمعرفته..
ثم قال: فللروح العظيمة الكبيرة من ذلك ما ليس لمَن هو دونها، وأنت ترى أحكام الأرواح في الدنيا كيف تتفاوت أعظم تفاوت بحسب تفارق الأرواح في كيفياتها وقواها وإبطائها وإسراعها والمعاونة لها؛ فللروح المطلقة من أسر البدن وعلائقه وعوائقه من التصرف والقوة والنفاذ والهمة وسرعة الصعود إلى الله والتعلق بالله ما ليس للروح المهينة المحبوسة في علائق البدن وعوائقه؛ فإذا كان هذا وهي محبوسة في بدنها فكيف إذا تجردت وفارقته واجتمعت فيها قواها وكانت في أصل شأنها روحًا عليةً زكيةً كبيرة ذات همة عالية، فهذه لها بعد مفارقة البدن شأن آخر وفعل آخر.
وقد تواترت الرؤيا في أصناف بني آدم على فعل الأرواح بعد موتها ما لا تقدر على مثله حال اتصالها بالبدن؛ من هزيمة الجيوش الكثيرة بالواحد والاثنين والعدد القليل ونحو ذلك.
وكم قد رُئِيَ النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ومعه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما في النوم قد هَزَمَتْ أرواحُهم عساكرَ الكفر والظلم، فإذا بجيوشهم مغلوبة مكسورة مع كثرة عددهم وعددهم وضعف المؤمنين وقلتهم.
ومن العجب أن أرواح المؤمنين المتحابين المتعارفين تتلاقى وبينها أعظم مسافة وأبعدها فتتألم وتتعارف؛ فيعرف بعضها بعضًا كأنه جليسه وعشيره، فإذا رآه طابق ذلك ما كان عرفته روحه قبل رؤيته” اهـ، ثم أيد ذلك بالنقول المستفيضة عن السلف الصالح.
وقال قطب الإرشاد الإمام العلّامة عبد الله بن علوي الحداد الحسيني الحضرمي الشافعي (ت: 1132هـ) رحمه الله تعالى: “الولي يكون اعتناؤه بقرابته واللائذين به بعد موته أكثرَ من اعتنائه بهم في حياته؛ لأنه في حياته كان مشغولًا بالتكليف، وبعد موته طرح عنه الأعباء وتجرد، والحي فيه خصوصية وبشرية، وربما غلبت إحداهما الأخرى وخصوصًا في هذا الزمان فإنها تغلب البشرية، والميت ما فيه إلا الخصوصية فقط.. وقال أيضًا: إن الأخيار إذا ماتوا لم تُفقَدْ منهم إلا أعيانهم وصورهم، وأما حقائقهم فموجودة، فهم أحياء في قبورهم، وإذا كان الولي حيًّا في قبره فإنه لم يفقد شيئًا من علمه وعقله وقواه الروحانية؛ بل تزداد أرواحهم بعد الموت بصيرة وعلمًا وحياة روحانية وتوجهًا إلى الله تعالى، فإذا توجهت أرواحهم إلى الله تعالى في شيء قضاه سبحانه وتعالى وأجراه؛ إكرامًا لهم، وهذا معنى قول بعضهم: إن لهم التصرف، فالتصرف الحقيقي الذي هو التأثير والخلق والإيجاد لله تعالى وحده لا شريك له، ولا تأثير للولي ولا غيره في شيء قط لا حيًّا ولا ميتًا، فمن اعتقد أن للولي أو غيره تأثيرًا في شيء فهو كافر بالله تعالى، فأهل البرزخ من الأولياء في حضرة الله تعالى، فمن توجه وتوسل بهم فإنهم يتوجهون إلى الله تعالى في حصول مطلوبه، فالتصرف الحاصل منهم هو توجههم بأرواحهم إلى الله تعالى، والتصرف الحقيقي لله وحده، فالواقع منهم من جملة الأسباب العادية التي لا تأثير لها، وإنما يوجد الأمر عندها لا بها على حسب ما أجراه الله تعالى من العوائد” اهـ نقلًا عن (شواهد الحق، في الاستغاثة بسيد الخلق، (صلى الله عليه وآله وسلم)، للعلامة النبهاني، ص: 74، ط. الميمنية).
ومن المقرر أن معجزات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مستمرة ومتجددة بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى، ونص العلماء على أنَّ كرامات الأولياء وإجابات المستغيثين به (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد وفاته من جُملة هذه المعجزات المتجددة؛ لأن كل ذلك حاصل بسبب الإيمان به واتِّباعه (صلى الله عليه وآله وسلم):
قال الإمام العارف أبو القاسم القشيري رحمه الله تعالى في “الرسالة القشيرية” بشرح شيخ الإسلام زكريا وحاشية العلامة العروسي (4/ 152، ط. دار الطباعة العامرة): “هذه الكرامات لاحقةٌ بمعجزات نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم).. وكل نبي ظهرت كرامته على واحد من أمته فهي معدودة من جملة معجزاته؛ إذ لو لم يكن ذلك الرسول صادقًا لم تظهر على يد من تابعه الكرامة” اهـ.
وقال الإمام الحافظ أبو عمرو بن الصلاح في (أدب المفتي والمستفتي، ص: 210، ط. مكتبة العلوم والحكم) وهو يتكلم عن معجزات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): “فإنها ليست محصورة على ما وُجِدَ منها في عصره (صلى الله عليه وآله وسلم)، بل لم تزل تتجدد بعده (صلى الله عليه وآله وسلم) على تعاقب العصور؛ وذلك أن كرامات الأولياء من أمته صلى الله عليه وآله وسلم وإجابات المتوسلين به في حوائجهم ومغوثاتهم عقيب توسلهم به في شدائدهم براهين له صلى الله عليه وآله وسلم قواطع، ومعجزات له سواطع، ولا يعدها عد ولا يحصرها حد، أعاذنا الله من الزيغ عن ملته، وجعلنا من المهتدين الهادين بهديه وسنته صلى الله عليه وآله وسلم” اهـ.
وقال الحافظ السخاوي في كتابه (القول البديع في الصلاة على الحبيب الشفيع (صلى الله عليه وآله وسلم)، ص: 442، ط. مؤسسة الريان): “ومَن تشفَّع بجاهه (صلى الله عليه وآله وسلم) وتوسل بالصلاة عليه: بلغ مراده، وأنجح قصده، وقد أفردوا ذلك بالتصنيف.. وهذا من المعجزات الباقية على ممر الدهور والأعوام، وتعاقب العصور والأيام، ولو قيل: إن إجابات المتوسلين بجاهه عقب توسلهم يتضمن معجزات كثيرة بعدد التوسلات لكان أحسن، فلا يطمع حينئذ في عد معجزاته حاصر، فإنه -ولو بلغ ما بلغ منها- حاسر قاصر” اهـ.
وتقرر في أصول الدين “أن ما جاز معجزةً لنبيٍّ جاز كرامةً لوليٍّ”، وأن الفرق بين المعجزة والكرامة هو أن المعجزة مقرونة بدعوى النبوة، أما الكرامة فدالّةٌ على صدق النبي الذي حصلت الكرامة بسبب الإيمان به، وتلك الكرامات الثابتة للصالحين لا يوجد أي دليل على انتهائها بانتهاء حياة الولي في الحياة الدنيا، بل وجد الدليل على عكس ذلك؛ فيما ثبت من الآثار المتكاثرة المتواترة في حصول الكرامات للصالحين بعد الوفاة؛ من تكلُّمٍ بعد الموت، وحفظٍ لجسد الميت، وقراءةٍ للقرآن، واستجابة الدعاء عند قبره، ودلالةٍ على الخير في المنام، وإخبارٍ بالمغيَّبات، وذلك كله حاصل بإذن الله تعالى من غير قدرة ذاتية للولي عليها، لا فرق في ذلك بين الحي والميت.
والإيمان بكرامات الأولياء مما أجمع عليه أهل السنة والجماعة مخالفين بذلك أهل البدع والأهواء، واعتبره علماء العقيدة أصلًا من أصول الاعتقاد، وإنكارها قد يخرج المسلم من دينه إذا كان ذلك من جهة الشك في قدرة الله تعالى، كما أن إثباتها للأولياء بعد انتقالهم يقره صريح المعقول، وصحيح المنقول، والموت يطرأ على الجسد لا الروح، فلا يجوز إنكار كرامات أولياء الله الصالحين لا في حياتهم، ولا بعد انتقالهم.
يقول الإمام العلامة المحقق السعد التفتازاني في (شرح المقاصد، 2/ 386): “وبالجملة ظهور كرامات الأولياء يكاد يلحق بظهور معجزات الأنبياء، وإنكارها ليس بعجيب من أهل البدع والأهواء؛ إذ لم يشاهدوا ذلك من أنفسهم قط ولم يسمعوا به من رؤسائهم الذين يزعمون أنهم على شيء مع اجتهادهم في أمور العبادات واجتناب السيئات، فوقعوا في أولياء الله تعالى أصحاب الكرامات يمزقون أديمهم ويمضغون لحومهم؛ لا يسمونهم إلا باسم الجهلة المتصوفة، ولا يعدونهم إلا في عداد آحاد المبتدعة، قاعدين تحت المثل السائر: “أوسعتُهم سبًّا وأودَوْا بالإبل”، ولم يعرفوا أن مبنى هذا الأمر على صفاء العقيدة ونقاء السريرة، واقتفاء الطريقة واصطفاء الحقيقة” اهـ.
فمن الدلائل الصحيحة على ثبوت الكرامات بعد الممات:
ما رواه البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه “أن كفار قريش لمّا علموا بقتل عاصم بن ثابت رضي الله عنه بعثوا من يأتيهم بشيء من جسده، فبعث الله لعاصم مثل الظُّلّة مِن الدَّبْر (أي النحل والزنابير)، فحَمَتْه من رسلهم، فلم يقدروا أن يقطعوا منه شيئًا”، وهذا صريح في كرامة الله له بعد موته.
وروى الطبراني في الأوسط من حديث حذيفة رضي الله عنه بسند جيد -كما قال السيوطي في “الخصائص الكبرى”-، وابن أبي الدنيا في كتاب “مَن عاش بعد الموت” والبيهقي في “دلائل النبوة” واللفظ له من حديث عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَتَكَلَّمُ بَعْدَ الْمَوْتِ»، وقد علقه ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل، 3/ 456، ط. دائرة المعارف العثمانية بالهند) على جهة الجزم به.
وروى ابن أبي الدنيا في كتاب “من عاش بعد الموت”، والبيهقي في “دلائل النبوة” أن زيد بن خارجة الأنصاري رضي الله عنه تُوُفِّيَ زمنَ عثمان بن عفان رضي الله عنه، ثم تكلم بعدما مات، فقال: “أحمد أحمد في الكتاب الأول صدق صدق، أبو بكر الصديق الضعيف في نفسه القوي في أمر الله في الكتاب الأول صدق صدق، عمر بن الخطاب القوي الأمين في الكتاب الأول صدق صدق، عثمان بن عفان على منهاجهم..”.
قال الحافظ البيهقي: “والرواية في ذلك صحيحة ثابتة، وقد رُوِيَ في التكلم بعد الموت عن جماعة بأسانيد صحيحة”.
وروى ابن أبي الدنيا في كتاب “من عاش بعد الموت” والبيهقي في “دلائل النبوة” -واللفظ له- عن ربعي بن حراش قال: أُتِيتُ فقيل لي إن إخاك قد مات، فجئت فوجدت أخي مُسَجًّى عليه ثوبٌ، فأنا عند رأسه أستغفر له وأترحم عليه إذ كَشَفَ الثوبَ عن وجهه فقال: السلام عليك، فقلت: وعليك، فقلنا: سبحان الله! أبعد الموت! قال: بعد الموت؛ إني قدمت على الله عز وجل بعدكم فتُلُقِّيتُ برَوْحٍ وريحان، وربٍّ غير غضبان، وكساني ثيابًا خضرًا من سندس وإستبرق، ووجدت الأمر أيسر مما تظنون، ولا تتكلوا؛ إني استأذنت ربي عز وجل أن أخبركم وأبشركم، فاحملوني إلى رسول الله، فقد عهد إليَّ أن لا أبرح حتى ألقاه”..
قال الحافظ البيهقي: “هذا إسناد صحيح؛ لا يشك حَدِيثيٌّ في صحته”.
وقال العلّامة ابن القيم الحنبلي في كتاب (الروح، ص: 21): “وقد دل التقاء أرواح الأحياء والأموات أن الحي يرى الميت في منامه فيستخبره ويخبره الميت بما لا يعلم الحي فيصادف خبره كما أخبر في الماضي والمستقبل، وربما أخبره بمال دفنه الميت في مكان لم يعلم به سواه، وربما أخبره بدين عليه وذكر له شواهده وأدلته، وأبلغُ من هذا أنه يخبر بما عمله من عمل لم يطلع عليه أحد من العالمين، وأبلغُ من هذا أنه يخبره أنك تأتينا إلى وقت كذا وكذا فيكون كما أخبر، وربما أخبره عن أمور يقطع الحي أنه لم يكن يعرفها غيرُه” اهـ.
وحينئذ فاستغاثة الحي بالميت ليست طلبًا من عدم، بل من حيٍّ حياةً برزخية لها من القدرة والتصرف ما يشاء الله تعالى، والله تعالى لا حدَّ لقدرته؛ يُقْدِر مَن شاء على ما يشاء.
لا يقال: الاستغاثة بالميت فيها طلب ما لا يقدر عليه إلا الله من المخلوق، فتكون شركًا.
لأنا نقول: يلزم على ذلك أن كل طلبٍ مِن المخلوق فهو شركٌ، وهذا مخالف لِمَا عُلِم بالضرورة من دين الإسلام؛ لأن المخلوق -حيًّا كان أم ميتًا، حاضرًا أم غائبًا- لا يقدر على فعل شيء أصلًا إلا بإقدار الله جل وعلا؛ سواء أكان ذلك الفعل مقدورًا عليه في الأحوال العادية أم من خوارق العادات، إنما الشرك في إثبات قدرة ذاتية للمخلوق مستقلة عن قدرة الخالق سبحانه؛ حيًّا كان المخلوق أم ميتًا.
وحينئذ فمدار صحة طلب الغوث ممن يُستَغاث به -بعد كون ذلك على جهة التسبب لا الخلق والإيجاد الذاتيين- إنما هي على غلبة الظن بإقدار الله تعالى لهذا المستغاث به على الإغاثة، فإن كان الغوث في قدرة المخلوق عادة فلا إشكال حينئذ في صحة طلبه منه، وإن كان من خوارق العادات وحَسُنَ ظنُّ المستغيث في إقدار الله تعالى للمستغاث به على الغوث، وهذا من الممكنات ولا محال فيه عقلًا ولا شرعًا، فلا علاقة حينئذ للاستغاثة بالشرك من قريب ولا بعيد.
المقام الثالث: في تحقيق معنى الاستغاثة، وأن الاستغاثة بالأنبياء والأولياء والصالحين؛ حاضرين وغائبين؛ أحياءً ومنتقلين: مشروعة بالأدلة النقلية والعقلية وعمل الأمة سلفًا وخلفًا من غير نكير.
فالاستغاثة: هي طلب الغوث، والمغيث على الحقيقة هو الله، والاستغاثة بالأنبياء والصالحين هي في حقيقتها توسل إلى الله تعالى بالمستغاث به، وهي على ثلاثة أنواع كما قال الإمام التقي السبكي وغيره:
– فإما أن تكون بمعنى طلب الحاجة من الله تعالى بسؤاله بالمستغاث به، أو بجاهه، أو ببركته.
– أو تكون بمعنى طلب الدعاء من المستغاث به.
– أو تكون طلبًا للحاجة من المستغاث به على معنى أن يجعله الله سببًا في حصوله بدعائه.
ولا إشكال في تصور الاستغاثة بهذه المعاني في حال الحياة الدنيوية للمستغاث به، وكذلك ينبغي أن يكون الأمر في الحياة البرزخية:
أما على المعنى الأول: فلأن جاه المستغاث به وبركته لا تنقطع بالوفاة.
وأما على المعنى الثاني: فلورود دعاء الأموات للأحياء وشعورهم بهم وردهم السلام عليهم فيما مضى من الأحاديث والآثار، فطلب الدعاء منهم حينئذٍ متصوَّر.
وأما على المعنى الثالث: فلأن كونَ المستغاث به سببًا في الإغاثة مبنيٌّ على استجابة الله لدعائه، فطلب المستغيث ذلك معقول المعنى غير مستنكر عقلًا ولا عرفًا.
ولا شك أن من استغاث بغير الله على جهة العبادة باعتقاده أن غير الله خالق للغوث أو قادر عليه من دون الله فهو كافر، وهذا الاعتقاد لا يدور بخلد مسلم يستغيث برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو بغيره من الأنبياء والأولياء. وإنما تضاف الإغاثة إلى المستغاث به على جهة التسبب والكسب لا على جهة الخلق والتأثير، وإضافة الفعل إلى المتسبِّب فيه صحيحة شرعًا وعقلًا وعرفًا.
قال الإمام المجتهد شيخ الشافعية في زمنه تقي الدين السبكي رحمه الله في (شفاء السقام في زيارة خير الأنام عليه الصلاة والسلام، ص: 383 – 385، تحقيق: حسين شكري):
“وليس المراد نسبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الخلق والاستقلال بالأفعال، هذا لا يقصده مسلم، فصرفُ الكلام إليه ومنْعُهُ من باب التلبيسِ في الدين، والتشويشِ على عوام الموحدين، وإذْ قد تحررت هذه الأنواع والأحوال في الطلب من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وظهر المعنى، فلا عليك في تسميته “توسلًا”، أو “تشفعًا”، أو “استغاثة”، أو “تَجَوُّهًا” -أي: توسلًا بالجاه-، أو “تَوَجُّهًا”؛ لأن المعنى في جميع ذلك سواء..
وأما الاستغاثة: فهي طلب الغوث، وتارة يطلب الغوث من خالقه وهو الله تعالى وحده، كقوله تعالى: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ﴾ وتارة يطلب ممن يصح إسناده إليه على سبيل الكسب، ومن هذا النوع الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفي هذين القسمين تعدّى الفعل تارة بنفسه .. وتارة بحرف الجر.. فيصح أن يقال: استغثتُ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم، واسْتغثتُ بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم بمعنى واحد، وهو طلب الغوث منه بالدعاء ونحوه على النوعين السابقين في التوسل من غير فرق، وذلك في حياته وبعد موته، ويقول استغثت الله وأستغيث بالله بمعنى طلب خلق الغوث منه، فالله تعالى مُسْتَغَاثٌ فالغوث منه خَلْقًا وإيجادًا، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم مستغاثٌ والغوث منه تسببًا وكَسْبًا..
وقد تكون الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم على وجه آخر، وهو أن يُقال استغثتُ الله بالنبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم كما تقول: سألت الله بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فيرجع إلى النوع الأول من أنواع التوسل، ويصح قبل وجوده وبعد وجوده، وقد يُحذفُ المفعول به ويقال استغثت بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذا المعنى.
فصار لفظ الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم له معنيان:
أحدهما: أن يكون مستغاثًا، والثاني: أن يكون مستغاثًا به، والباء للاستعانة.
فقد ظهر جواز إطلاق الاستغاثة والتوسل جميعًا، وهذا أمر لا يُشَكُّ فيه، فإن الاستغاثة في اللغة طلب الغوث وهذا جائزٌ لغةً وشرعًا من كل من يقدر عليه، بأي لفظ عبر عنه كما قالت أم إسماعيل: “أغث إن كان عندك غواث”..
وقد قيل: إن في “البخاري” في حديث الشفاعة يوم القيامة: «فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ اسْتَغَاثُوا بِآدَمَ، ثُمَّ بِمُوسَى، ثُمَّ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَآلِهِ وَسَلَّمَ»، وهو حجة في إطلاق لفظ الاستغاثة، ولكن ذلك لا يُحتاج إليه؛ لأن معنى الاستغاثة والسؤال واحد، سواء عُبِّر عنه بهذا اللفظ أم بغيره، والنزاع في ذلك نزاع في الضروريات، وجوازه معلوم شرعًا” اهـ.
وقال الإمام القسطلاني في (المواهب اللدنية، 4/ 593، ط. المكتب الإسلامي): “واعلم أن الاستغاثة هي طلب الغوث، فالمستغيث يطلب من المستغاث به أن يحصل له الغوث منه، فلا فرق بين أن يعبر بلفظ “الاستغاثة”، أو “التوسل”، أو “التشفع”، أو “التجوُّه”، أو “التوجُّه”؛ لأنهما من الجاه والوجاهة، ومعناه: علو القدر والمنزلة” اهـ.
وذكر نحوَ ذلك الأئمةُ في كتبهم؛ كالعلامة السمهودي في (وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، 5/ 67، ط. دار الفرقان)، والعلّامة ابن حجر الهيتمي الشافعي في (الجوهر المنظم في زيارة القبر الشريف النبوي المكرم، ص: 150، ط. دار جوامع الكلم).
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في (فتح الباري، 11/ 441) في شرحه لرواية البخاري لحديث الشفاعة «فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ اسْتَغَاثُوا بِآدَمَ، ثُمَّ بِمُوسَى، ثُمَّ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ»: “وفيه أن الناس يوم القيامة يستصحبون حالهم في الدنيا من التوسل إلى الله في حوائجهم بأنبيائهم” اهـ، وهذا صريح منه بأن الاستغاثة نوع من التوسل.
وقال العلامة الأصولي شمس الدين بن الجزري -فيما نقله عنه الإمام نجم الدين الطوفي الحنبلي مُقرًّا ومُقرِّرًا له-: “وإذا استصرخ الناس في موقف القيامة بالأنبياء ليشفعوا لهم في التخفيف عنهم جاز استصراخهم بهم في غير ذلك المقام” اهـ من (الإشارات الإلهية في المباحث الأصولية، 3/ 90، ط. المكتبة المكية).
والحق أنه لا يسع مسلمًا أن ينكر الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما يليق بجاهه الشريف عند الله تعالى كما أقر بذلك ابن تيمية بنفسه، بل جعل منكرها حينئذ كافرًا أو ضالًّا، فقال في (مجموع الفتاوى، 1/ 112): “والاستغاثة بمعنى أن يطلب من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ما هو اللائق بمنصبه لا ينازع فيها مسلم، ومن نازع في هذا المعنى فهو إما كافر إن أنكر ما يكفر به، وإما مخطئ ضال” اهـ. ولا يخفى أن أدلة الشريعة المتكاثرة -والتي سيأتي طرف منها- تدل -بما لا يدع مجالًا لمتشكك أو صاحب شبهة- على أن استغاثة المسلمين بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمعاني المذكورة- والتي لا يدور بخلد مسلم فيها صرف شيء من العبادة لغير الله تعالى- هي مما يليق بمنصبه الشريف وجاهه المُنيف صلى الله عليه وآله وسلم عند ربه جل وعلا.
* وفيما يلي بيان جواز الاستغاثة ومشروعيتها؛ بالأدلة النقلية من الكتاب والسنة والأدلة العقلية وعمل الأمة سلفًا وخلفًا من غير نكير:
أما الكتاب: فقوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا﴾ [النساء: 64].
فهذه آية مطلقة ليس لها مقيد نصي ولا عقلي يقصر معناها على الحياة الدنيوية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، بل هي باقية إلى يوم القيامة؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
وقد فهم الصحابة من هذه الآية العموم؛ فروى الطبراني في “المعجم الكبير” عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: “إنّ في النساء لخمسَ آياتٍ ما يَسُرُّني بهن الدنيا وما فيها، وقد علمتُ أن العلماء إذا مروا بها يعرفونها.. فذكر منها قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا﴾. قال الهيثمي في “مجمع الزوائد”: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح. وظاهرٌ أن سبب سروره هو أنه فهم العموم من الآية.
قال العلّامة الشوكاني في (نيل الأوطار، 5/ 156، ط. إدارة الطباعة المنيرية): “وجه الاستدلال بها: أنه صلى الله عليه وآله وسلم حي في قبره بعد موته كما في حديث «الْأَنْبِيَاءُ أَحْيَاءٌ فِي قُبُورِهِمْ»، وقد صححه البيهقي وألف في ذلك جزءًا، قال الأستاذ أبو منصور البغدادي: قال المتكلمون المحققون من أصحابنا: إن نبينا صلى الله عليه وآله وسلم حي بعد وفاته. انتهى” اهـ.
وقد استحب فقهاء المذاهب الأربعة جميعًا تلاوةَ هذه الآية الكريمة عند زيارة قبر المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، واستدلوا بها على مشروعية طلب الشفاعة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند زيارة قبره الشريف، وأن يخاطبه الزائر بقوله: “جئتك مستغفرًا من ذنبي، مستشفعًا بك إلى ربي”، وهذا استغاثة صريحة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لأن الاستشفاع: طلب الشفاعة، والشفاعة من جملة الغوث، بل هي أعظمه، فالاستشفاع استغاثة بلا شك. واستشهدوا في ذلك بقصة العتبي قال: كنت جالسًا عند قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فجاء أعرابي فقال: “السلام عليك يا رسول الله! سمعت الله تعالى يقول: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا﴾، وقد جئتك مستغفرًا من ذنوبي، مُستشفِعًا بك إلى ربي”، ثم أنشأ يقول:

يا خير مَن دُفِنَتْ بالقاع أعظُمُه فطاب مِن طِيبِهِنَّ القاعُ والأكَمُ
نفسي الفداءُ لقبرٍ أنت ساكنُه فيه العفافُ وفيه الجودُ والكرمُ
قال: ثم انصرف، فحملتني عيناي؛ فرأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في النوم، فقال لي: “يا عتبي! الحق الأعرابي فبشره أن الله تعالى قد غفر له”.
وممن ذكر هذه القصة من العلماء مستشهدًا بها على ذلك: الإمام النسفي، والكمال بن الهمام في “فتح القدير”، والشرنبلالي في “نور الإيضاح” من الحنفية.
والقرطبي في “تفسيره”، والقاضي عياض في “الشفا بتعريف حقوق المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم”، والشهاب القرافي في “الذخيرة”، والثعالبي في “تفسيره”، والزرقاني، والشيخ العدوي الحمزاوي في “كنز المطالب” من المالكية.
والحافظ البيهقي في “شعب الإيمان” ونقله عن القاضيين الشافعيين الماوردي وأبي الطيب، وشيخ الشافعية في زمنه أبو منصور الصباغ في كتابه “الشامل”، والإمام النووي في “الإيضاح في المناسك” و”المجموع”، والإمام التقي السبكي في “شفاء السقام”، وابن كثير في “تفسيره” و”البداية والنهاية”، والتقي الحصني في “دفع شُبَهِ مَن شَبَّه وتمرَّد”، وابن الملقن في “غاية السول في خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم”، والسيوطي في “الدر المنثور”، والقسطلاني في “المواهب اللدنية”، وابن حجر الهيتمي في “الجوهر المنظم”، والجاوي في “نهاية الزين” من الشافعية.
والإمام عبد القادر الجيلاني في كتاب “الغُنْيَة”، وابن الجوزي في “المنتظم”، وابن قدامة المقدسي في “المغني”، وأبو الفرج ابن قدامة في “الشرح الكبير”، وأبو عبد الله السمري في “المستوعب”، وابن مفلح في “المبدع”، والبهوتي في “كشّاف القناع”،
ومن المؤرخين: ابن الأثير في “الكامل”، وابن خلكان في “وفيات الأعيان”. وغيرهم كثير وكثير.
وأما الأدلة من السنة النبوية المطهرة:
– فحديث الأعمى الذي علمه النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يقول: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ وَأَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ، يَا مُحَمَّدُ إِنِّي قَدْ تَوَجَّهْتُ بِكَ إِلَى رَبِّي فِي حَاجَتِي هَذِه لِتُقْضَى لِي، اللَّهُمَّ شَفِّعْهُ فِيَّ» رواه الترمذي وابن ماجه والنسائي وصححه جمع من الحفاظ، وفي بعض رواياته أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له: «وَإِنْ كَانَ لَكَ حَاجَةٌ فَمِثْلُ ذَلِكَ»، وعند الطبراني وغيره أن راوي الحديث عثمان بن حنيف رضي الله علَّم هذا الدعاء لمن طلب منه التوسط له في حاجة عند عثمان بن عفان رضي الله عنه في خلافته، وفي ذلك استغاثة صريحة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى.
وأما ما قيل مِن أن الأعمى صوَّر صورة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قلبه وخاطبها وناداها كما يخاطب الإنسان من يتصوره ممن يحبه أو يبغضه وإن لم يكن حاضرًا: فمردود بأنه إذا جاز نداء الصورة جاز نداء الذات من باب أولى؛ لأن الصورة وهمية خيالية والذات محققة، وإذا كان المُدَّعَى أن الطلب من الذات حرامٌ لعدم قدرتها فكيف يجوز الطلب من الصورة مع أنها أشد عجزًا.
– وحديث الخروج إلى المسجد للصلاة: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَنْ قَالَ حِينَ يَخْرُجُ إِلَى الصَّلَاةِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِحَقِّ السَّائِلِينَ عَلَيْكَ، وَبِحَقِّ مَمْشَايَ؛ فَإِنِّي لَمْ أَخْرُجْ أَشَرًا وَلَا بَطَرًا وَلَا رِيَاءً وَلَا سُمْعَةً، خَرَجْتُ اتِّقَاءَ سُخْطِكَ وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِكَ، أَسْأَلُكَ أَنْ تُنْقِذَنِي مِنَ النَّارِ وَأَنْ تَغْفِرَ لِي ذُنُوبِي إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، وَكَّلَ اللَّهُ بِهِ سَبْعِينَ أَلْفَ مَلَكٍ يَسْتَغْفِرُونَ لَهُ وَأَقْبَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِوَجْهِهِ حَتَّى يَفْرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ» رواه أحمد وابن ماجه وابن خزيمة، وهو حديث صحيح؛ صححه الحافظ البغوي، والحافظ أبو الحسن المقدسي شيخ المنذري، والحافظ الدمياطي، والحافظ العراقي، والحافظ ابن حجر العسقلاني.
والسائلون لله تعالى الذين توسل المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم بحقهم أعمُّ من أن يكونوا أحياءً أو منتقلين، وهذا يدل على جواز التوسل بالمخلوق سواء أكان حيًّا أو مُتَوَفًّى، كما أن في التوسل بالعمل الصالح (وهو المشي إلى الصلاة) دليلًا آخر على جواز التوسل إلى الله في الدعاء بالمخلوق، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم أعظم المخلوقين قدرًا وأعلاهم شأنًا، فالتوسل به أَوْلَى.
– وحديث أنس بن مالك رضي الله عنه عند موت فاطمة بنت أسد أم علي رضي الله عنهما، وهو حديث طويل، وفي آخره أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «اللَّهُ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَهُوَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، اغْفِرْ لِأُمِّي فَاطِمَةَ بِنْتِ أَسَدٍ وَلَقِّنْهَا حُجَّتَهَا وَوَسِّعْ عَلَيْهَا مَدْخَلَهَا بِحَقِّ نَبِيِّكَ وَالْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِي، فَإِنَّكَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ» رواه الطبراني في الأوسط والكبير وأبو نعيم في الحلية وغيرهما.
– وكذلك حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِذَا أَضَلَّ أَحَدُكُمْ شَيْئًا أَوْ أَرَادَ أَحَدُكُمْ عَوْنًا وَهُوَ بِأَرْضٍ لَيْسَ بِهَا أَنِيسٌ، فَلْيَقُلْ: يَا عِبَادَ اللَّهِ أَغِيثُونِي، يَا عِبَادَ اللَّهِ أَغِيثُونِي، فَإِنَّ لِلَّهِ عِبَادًا لَا نَرَاهُمْ» أخرجه الطبراني وأبو يعلى، ونحوه عند البزار من حديث ابن عباس رضي الله عنهما ولفظه: «إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ سِوَى الْحَفَظَةِ يَكْتُبُونَ مَا يَسْقُطُ مِنْ وَرَقِ الشَّجِرِ، فَإِذَا أَصَابَ أَحَدَكُمْ عَرْجَةٌ بِأَرْضِ فَلَاةٍ فَلْيُنَادِ: أَعِينُوا عِبَادَ اللَّهِ» رواه الطبراني، وحسنه الحافظ ابن حجر في أمالي الأذكار، قال الطبراني عقب رواية الحديث: وَقَدْ جرّبَ ذَلِكَ.
فهذا الحديث فيه مشروعية أن يُنادي المسلم مَن هو غائب بالنسبة له، وقد فعل ذلك إمام أهل السنة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله واستغاث بعباد الله الغائبين عنه؛ كما نقل ذلك عنه ابنه عبد الله في (المسائل، 217)، وأسنده عنه البيهقي في (شعب الإيمان، 6/ 128)، وعنه ابن عساكر في (تاريخ دمشق، 5/ 298)، قال: سمعت أبي يقول: “حججت خمس حجج؛ اثنتين راكبًا، وثلاثًا ماشيًا، أو ثلاثًا راكبًا، واثنتين ماشيًا، فضللت الطريق في حجة وكنت ماشيًا، فجعلت أقول: يا عباد الله! دُلُّونِي على الطريق، قال: فلم أزل أقول ذلك حتى وقفت على الطريق”، أو كما قال أبي. وذكر هذه القصة أيضا العلّامة ابن مفلح الحنبلي تلميذ ابن تيمية في كتاب (الآداب الشرعية).
وقال الإمام النووي في “الأذكار” في كتاب أذكار المسافر، باب ما يقول إذا انفلتت دابته (ص: 331، ط. دار الفكر): “قلت: حكى لي بعض شيوخنا الكبار في العلم أنه انفلتت له دابة أظنها بغلة وكان يعرف هذا الحديث، فقاله، فحبسها الله عليهم في الحال. وكنت أنا مرة مع جماعة فانفلتت منها بهيمة وعجزوا عنها، فقلته فوقفت في الحال بغير سبب سوى هذا الكلام” اهـ.
وإذا جازت الاستغاثة بالغائب -الذي لا يعرف المستغيثُ عينَه ولا يتحقق سماعَه- فلأن تجوز بمن عُرِفَتْ أعيانُهم وتحققت حياتُهم وثبت في السُّنة سماعُهم من باب أَوْلَى، وليس نداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخطابُه أقلَّ من عباد الله الذين أَمرنا أن نناديهم ونستغيث بهم في ردِّ الدابة، ومقصوده صلى الله عليه وآله وسلم هو التسبُّب، فإن الله ربط الأمور بالأسباب، وهو صلى الله عليه وآله وسلم أعظم الوسائل والأسباب.
وأما الاحتجاج على تحريم الاستغاثة بما رواه الطبراني -كما ذكر الهيثمي في (مجمع الزوائد، 10/ 159)- من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال أبو بكر رضي الله عنه: قوموا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من هذا المنافق، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّهُ لَا يُسْتَغَاثُ بِي إِنَّمَا يُسْتَغَاثُ بِاللَّهِ عزَّ وَجَلَّ»، فهذا حديث في سنده ابن لهيعة وهو ضعيف، وقال الحافظ ابن كثير في “تفسيره” (5/ 333، ط. دار طيبة): “وهذا الحديث غريب جدًّا” اهـ، مع أن هذا الحديث لو حُمِل على ظاهره للزم منه مخالفة ما هو مُجمَع عليه من جواز الاستغاثة بالحاضر فيما يقدر عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان في حياته الدنيا وكان قادرًا على إغاثتهم من هذا المنافق، وقد جاءت الأحاديث الصحيحة بالنص على مشروعية الاستغاثة صراحةً بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما في حديث الشفاعة المشهور في الصحيحين، ولفظه عند البخاري: «إِنَّ الشَّمْسَ تَدْنُو يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَبْلُغَ الْعَرَقُ نِصْفَ الأُذُنِ، فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ اسْتَغَاثُوا بِآدَمَ، ثُمَّ بِمُوسَى، ثُمَّ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ».
وقال العلّامة ابن حجر الهيتمي شيخ الشافعية في زمنه في كتابه (الجوهر المنظم في زيارة القبر المكرم، ص: 151 – 152، ط. دار جوامع الكلم): “في الخبر ابن لهيعة، والكلام فيه مشهور، وبفرض صحته فهو على حد ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى﴾، و«مَا أَنَا حَمَلْتُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَمَلَكُمْ»، أي: أنا وإن استُغِيثَ بي، فالمُستَغاث به في الحقيقة هو الله، وكثيرًا ما تجيء السنة بنحو هذا من بيان حقيقة الأمر، ويجيء القرآن بإضافة الفعل لمُكتسِبه، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا مِنْكُمْ الْجَنَّةَ بعَمَلِه» مع قوله تعالى: ﴿ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾” اهـ.
ولو صح هذا الحديث لكان حجة على مانعي الاستغاثة بالأموات؛ لأنهم يجيزونها بالأحياء فيما يقدرون عليه، والصواب في ذلك كله أنه لا فرق بين الاستغاثة بالأحياء والأموات؛ فطلبها منهم على جهة السببية جائز إن صحت السببية، أما على جهة العبادة فهو كفر وشرك؛ لا فرق في ذلك بين كون المستغاث به حيًّا أو ميتًا.
– وأما أنه مذهب أهل السنة والجماعة واتفق عليه عمل الأمة سلفًا وخلفًا من غير نكير:
فيقول الحافظ أبو عمرو بن الصلاح في (أدب المفتي والمستفتي، ص: 210، ط. مكتبة العلوم والحكم) وهو يتكلم عن معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “فإنها ليست محصورة على ما وجد منها في عصره صلى الله عليه وآله وسلم، بل لم تزل تتجدد بعده صلى الله عليه وآله وسلم على تعاقب العصور؛ وذلك أن كرامات الأولياء من أمته صلى الله عليه وآله وسلم وإجابات المتوسلين به في حوائجهم ومغوثاتهم عقيب توسلهم به في شدائدهم براهين له صلى الله عليه وآله وسلم قواطع، ومعجزات له سواطع، ولا يعدها عد ولا يحصرها حد، أعاذنا الله من الزيغ عن ملته، وجعلنا من المهتدين الهادين بهديه وسنته” اهـ.
ويقول الإمام المجتهد بقية السلف تقي الدين السبكي في كتابه (شفاء السقام، ص: 357): “اعْلَمْ أنه يجوز ويَحسُنُ التوسلُ والاستغاثة والتشفعُ بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى ربه سبحانه وتعالى، وجوازُ ذلك وحسنُه من الأمور المعلومة لكلِّ ذي دِين، المعروفةِ مِن فعل الأنبياء والمرسلين، وسِيَر السلف الصالحين، والعلماء والعوامِّ من المسلمين، ولم يُنكِر أحدٌ ذلك مِن أهل الأديان، ولا سُمِع به في زمنٍ مِن الأزمان، حتى جاء ابنُ تيمية؛ فتكلَّم في ذلك بكلام يُلَبِّسُ فيه على الضعفاء الأغمار، وابتدع ما لم يُسبَقْ إليه في سائر الأعصار” اهـ.
ويقول الإمام تقي الدين الحصني الشافعي في كتابه (دفع شُبَهِ مَن شبَّه وتمرَّد، ص: 436 – 437، ط. دار المصطفى): “والمراد أن الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم واللواذ بقبره مع الاستغاثة به كثير على اختلاف الحاجات، وقد عقد الأئمة لذلك بابًا، وقالوا: إن استغاثةَ مَن لاذ بقبره وشكى إليه فقره وضره توجب كشف ذلك الضر بإذن الله تعالى” اهـ.
ويقول الإمام القسطلاني في (المواهب اللدنية، 4/ 594-595): “وأما التوسل به صلى الله عليه وآله وسلم بعد موته في البرزخ: فهو أكثر من أن يُحصَى، أو يُدرَك باستقصا” اهـ.
والآثار في ذلك عن الصحابة والتابعين والسلف الصالح كثيرة يضيق المقام عن حصرها، وقد حصل ذلك لجماعة من الصحابة وعلماء سلف الأمة من أئمة المحدثين والصوفية والعلماء بالله المحققين، كما قال السمهودي في (وفاء الوفا، 5/ 78)، وصنف فيها الأئمة كتبًا مفردة، كما صنع الإمام الحافظ المنذري (ت: 656هـ) صاحب “الترغيب والترهيب” في رسالته (زوال الظما في ذكر من استغاث برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الشدة والعمى”، والإمام أبو عبد الله بن النعمان المراكشي (ت: 683هـ) في كتابه (مصباح الظلام في المستغيثين بخير الأنام في اليقظة والمنام)، والعلامة نور الدين الحلبي الشافعي (ت: 1044هـ) في كتابه (بغية ذوي الأحلام بأخبار مَن فُرِّجَ كربُه برؤية المصطفى عليه الصلاة والسلام في المنام)، وغيرهم.
قال العلامة الأصولي شمس الدين الجزري الشافعي (ت: 711هـ) شارح “منهاج البيضاوي” فيما أورده العلامة نجم الدين الطوفي الحنبلي (ت: 716هـ) في كتابه (الإشارات الإلهية، 3/ 91) مقرًّا له وزائدًا عليه: “وقد صنف أبو عبد الله بن النعمان كتابًا سمّاه (مصباح الظلام، في المستغيثين بخير الأنام)، واشتهر هذا الكتاب، وأجمع أهل عصره على تلقيه منه بالقبول، وإجماعُ أهلِ كل عصرٍ حجةٌ” اهـ.
ومن ذلك:
– ما رواه ابن أبي شيبة في (المصنف، 7/ 482)، وابن أبي خيثمة -كما في (الإصابة في تمييز الصحابة، 3/ 484)-، والبيهقي في (دلائل النبوة، 7/ 47)، والخليلي في (الإرشاد، 1/ 313-314)، من رواية أبي صالح السمان عن مالك الدار -وكان خازن عمر- قال: أصاب الناس قحط في زمن عمر رضي الله عنه، فجاء رجل إلى قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله استسق لأمتك؛ فإنهم قد هلكوا، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المنام فقال: ائت عمر فأقرئه مني السلام وأخبره أنكم مسقون، وقل له عليك الكيس، قال: فأتى الرجل عمر فأخبره فبكى عمر رضي الله عنه وقال: يا رب ما آلو إلا ما عجزت عنه. وهذا حديث صحيح؛ صححه الحافظ ابن كثير في (البداية والنهاية، 7/ 101)، وقال في (جامع المسانيد والسنن، 1/ 223): إسناده جيد قوي، وصححه الحافظ ابن حجر في (فتح الباري، 2/ 495).
– وروى البخاري في “الأدب المفرد”، وابنُ السُّنِّي في “عمل اليوم والليلة” كلاهما في “باب: ما يقول إذا خَدِرَتْ رجلُه” أن ابن عمر رضي الله عنهما خَدِرَتْ رِجْلُه، فقال له رجل: اذكر أحب الناس إليك، فقال: “يا محمد!”، فقام فمشى.
وقد ساق المصنفون هذا الأثر في الأذكار فيما يقوله مَن خَدِرَتْ رجلُه؛ كالإمام النووي في “الأذكار”، وشيخ القراء ابن الجزري في “الحصن الحصين” ومختصره، وغيرهم. بل إن ابن تيمية نفسه ذكرها في “الكلم الطيب” وعقد لذلك فصلًا في الرِّجْل إذا خَدِرَتْ.
– وذكر الطبري في “تاريخه” في الكلام على أحداث معركة اليمامة: أن خالد بن الوليد رضي الله عنه وقف بين الصفين ودعا للبراز وقال: أنا ابن الوليد العود، أنا ابن عامر وزيد، ثم نادى بشعار المسلمين وكان شعارهم يومئذ: يا محمداه، وجعل لا يبرز له أحد إلا قتله.
– وروى الحاكم في “المستدرك” أن خالد بن الوليد رضي الله عنه فقد قلنسوة له يوم اليرموك فقال: اطلبوها، فلم يجدوها ثم طلبوها فوجدوها وإذا قلنسوة خلقة، فقال خالد: “اعتمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فحلق رأسه، وابتدر الناس جوانب شعره، فسبقتهم إلى ناصيته فجعلتها في هذه القلنسوة، فلم أشهد قتالًا وهي معي إلّا رُزِقْت النصر”.
– وروى ابن أبي الدنيا في كتاب “مجابي الدعاء” عن كثير بن محمد بن كثير بن رفاعة قال: جاء رجل إلى عبد الملك بن سعيد ابن أبجر فجس بطنه فقال: بك داء لا يبرأ، قال: ما هو؟ قال: الدُّبَيْلَة -وهي خرّاج ودمل كبير تظهر في الجوف فتقتل صاحبها غالبًا-، قال: فتحول الرجل فقال: الله الله الله ربي لا أشرك به شيئًا، اللهم إني أتوجه إليك بنبيك محمد نبيّ الرحمة صلى الله عليه وآله وسلم، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربك وربّي يرحمني ممّا بي. قال: فجس بطنه فقال: قد بَرِئْتَ؛ ما بك علة.
– وروى الحافظ ابن الجوزي الحنبلي في كتاب “الوفا بتعريف فضائل المصطفى” في باب “الاستسقاء بقبره صلى الله عليه وآله وسلم، -وأوردها الحافظ الذهبي في (سير أعلام النبلاء، 16/ 401، ط. مؤسسة الرسالة)، وكذلك الحافظ السخاوي في (القول البديع، ص: 325) على جهة الجزم بها- عن الإمام أبي بكر بن المقرئ قال: كنت أنا والطَّبَراني وأبو الشيخ في حَرَم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكنا على حالة، فأثَّر فينا الجوع، فواصَلْنا ذلك اليوم، فلما كان وقت العشاء حضرتُ قبرَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقلت: يا رسول الله! الجوعَ، الجوعَ، وانصرفت. فقال لي أبو الشيخ: اجلس؛ فإما أن يكون الرزق أو الموت. قال أبو بكر: فنمت أنا وأبو الشيخ، والطبرانيُّ جالسٌ ينظر في شيء. فحضر بالباب عَلَوِيّ فدقَّ الباب، فإذا معه غلامان مع كل واحد منهما زنبيل كبير فيه شيء كثير. فجلسنا وأكلنا، وظننا أن الباقي يأخذه الغلام، فولّى وترك عندنا الباقي، فلما فرغنا من الطعام قال العلوي: يا قوم، أشكوتم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم فأمرني بحمل شيء إليكم.
– ومن المستغيثين بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم: الإمام الحجة أبو الفرج بن أبي حاتم الأنصاري القزويني [ت501هـ] فيما ذكره عنه الحافظ الذهبي في “تاريخ الإسلام” (35/52، ط. دار الكتاب العربي) في وفيات سنة إحدى وخمسمائة قال: وضاع ابنٌ له قبل وصوله المدينة. قال بعضهم: فرأيناه في مسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتمرغ في التراب ويتشفع بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في لُقِيِّ ولده والخلق حوله فبينا هو في تلك الحال إذ دخل ابنه من باب المسجد فاعتنقا زمانا.
رواها السمعاني عن أبي بكر بن أبي العباس المروزي أنه حج تلك السنة ورآه يتمرغ في التراب والخلق مجتمعون عليه وهو يقول: يا رسول الله جئتكم من بلد بعيد زائرًا وقد ضاع ابني! لا أرجع حتى ترد علي ولدي، وردد هذا القول، إذ دخل ابنه فصرخ الحاضرون.
– وممن استغاثوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الإمام الفقيه شيخ الإسلام أبو العباس ابن الرفعة الأنصاري الشافعي [ت710هـ] الذي قال عنه ابن تيمية -فيما ذكره ابن حجر في “الدرر الكامنة” (1/337، ط. دائرة المعارف العثمانية بالهند)-: رأيت شيخا يتقاطر فقه الشافعية من لحيته، ونقل أيضًا عن التقي السبكي أنه قال عنه: كان أفقه من الروياني صاحب البحر، وقال السيوطي في “حسن المحاضرة” (1/320، ط. دار إحياء الكتب العربية): واحد مصر، وثالث الشيخين؛ الرافعي والنووي: في الاعتماد عليه في الترجيح. قال الإسنوي: كان إمام مصر بل سائر الأمصار، وفقيه عصره في جميع الأقطار، لم يُخرج إقليم مصر بعد ابن الحداد مَنْ يدانيه، ولا يُعلم في الشافعية مطلقا بعد الرافعي من يساويه.
يقول الشيخ شمس الدين بن النعمان في كتابه “مصباح الظلام في المستغيثين بخير الأنام في اليقظة والمنام” (ص: 45، ط. دار جوامع الكلم): [ولما كانت سنة ثلاث وخمسين وستمائة توقفت زيادة النيل بمصر في شهر مسرى عن عادته، فضج الناس بسبب ذلك، مع ما هم فيه الغلاء في السعر، قال الفقيه المقرئ أبو العباس أحمد بن علي بن الرِّفْعة الأنصاري: فبِتُّ ليلة الجمعة الرابع والعشرين من جمادى الآخرة الموافق لليلة السادسة من مسرى المتقدم ذكره مهمومًا، فصليت ركعتين؛ وقرأت في الأولى بفاتحة الكتاب وقوله تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ﴾ إلى آخر السورة، وفي الثانية بفاتحة الكتاب وقوله تعالى: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ إلى آخر السورة، واستغثت بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ونمتُ، فرأيت هاتفًا هتف بي وهو يقول: إنه سمع استغاثتك، وإنه يفرج عن العالم بعد ثلاثة أيام في نيل مصر، وكنت أخبرت أن هذه الرواية عند الشيخ أبي المجد الإخميمي خطيب مصر، فسألته عن هذه الرؤيا، فأخبرني أن الفقيه أبا العباس أحمد بن الرفعة المذكور أخبره بالمنام صبيحة يوم الجمعة المتقدم ذكره، وقال الشيخ أبو المجد المذكور: فبعد ثلاثة أيام زاد النيل في ذلك خمسة عشر إصبعًا، ثم استمر في الزيادة حتى بلغ في الزيادة تلك السنة تسعة عشر ذراعًا، وذلك ببركة الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم] اهـ.
– ومنهم الإمام الحافظ القسطلاني الشافعي حيث يقول في “المواهب اللدنية” (4/595): [ولقد كان حصل لي داء أعياء دواؤُه الأطباءَ، وأقمت به سنين، فاستغثت به صلى الله عليه وآله وسلم ليلة الثامن والعشرين من جمادى الأولى سنة ثلاث وتسعين وثمانمائة بمكة زادها الله شرفًا ومنّ عليَّ بالعَوْدِ إليها في عافية بلا محنة، فبينما أنا نائم إذ جاء رجل معه قرطاس مكتوب فيه: هذا دواء داء أحمد بن القسطلاني من الحضرة الشريفة بعد الإذن الشريف، ثم استيقظت فلم أجد بي شيئًا مما كنت أجده، وحصل الشفاء ببركة النبي صلى الله عليه وآله وسلم] اهـ، وذكر قصة أخرى حصلت له في ذلك.
– ومنهم العلامة المؤرخ السمهودي الشافعي؛ حيث ذكر في كتابه “وفاء الوفا” (5/84) أنه استغاث بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد استجاب الله تعالى طلبه، وعقد لذلك فصلًا (5/78-86) ساق فيه مجموعة كبيرة من استغاثات السلف والصالحين والعلماء برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى، وما حصل من استجابة الله تعالى لذلك ببركة الاستغاثة والتشفع بحبيبه ومصطفاه صلى الله عليه وآله وسلم.
كما اشتهرت استغاثات العلماء والأدباء والأمراء برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أشعارهم ورسائلهم إليه صلى الله عليه وآله وسلم شهرةً مستفيضة على مر العصور من غير نكير، حتى لا يكاد يوجد ممن مدح النبيَّ المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم أحدٌ يخلو شعره من الاستغاثة به صلى الله عليه وآله وسلم، ومن ذلك:
– الإمام عالم المغرب وإمام أهل الحديث في وقته القاضي عياض بن موسى اليحصبي المالكي [ت544هـ] صاحب كتاب “الشفا بتعريف حقوق المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم”، وقد أرسل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قبره رسالةً استفاضت شهرتها، يسأله فيها الشفاعة، وعُدَّت هذه الرسالة من مناقبه العالية، كما أنه تشفع بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في أشعاره كما هو مبسوط في ديوانه.
– والإمام الشاعر جمال الدين يحيى بن يوسف بن يحيى الصرصري الحنبلي [ت656هـ] الذي وصفه الحافظ ابن رجب الحنبلي بالشدة في السُّنة والانحراف عن مخالفيها فقال عنه في “الذيل على طبقات الحنابلة” (1/197): [شاعر العصر، وصاحب الديوان السائر في الناس في مدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كان حسان وقته.. قال: وكان شديدًا في السنة، منحرفًا على المخالفين لها، وشعره مملوء بذكر أصول السنة، ومدح أهلها، وذم مخالفيها، وله قصيدة طويلة لامية في مدح الإِمام أحمد وأصحابه.. وكان قد رأى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في منامه وبشره بالموت على السُّنَّة، ونظم في ذلك قصيدة طويلة معروفة] اهـ.
وقد امتلأت مدائحه النبوية بالاستغاثة والتوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وتلقَّى العلماء شعرَه بالقبول، ولم يطعن في مدائحه النبوية أحدٌ من العلماء من أهل عصره فمن بعدهم.
فمما قاله الإمام الصرصري: كما في “المجموعة النبهانية في المدائح النبوية” للعلّامة الشيخ يوسف النبهاني [ت1350هـ] (1/119 ط. دار الفكر):
يا حبيبَ الرحمن في الخلق يا مَن تعرف الأرضُ فضلَه والسـماءُ
أنت ذُخــــــــــــرٌ لنا وعـــونٌ على خَطْــ ـــبِ زمـــــــــان به اللبيــــــبُ يُساءُ
فأَغِــثْـــــــــــني وكن لضعفي مُجيــــــــــرًا في مَقــــــــامٍ تخــــــــــافه الأتقيـــــــــاءُ
ومما قاله أيضًا: كما في “المجموعة النبهانية” (1/398 ط. دار الفكر):
فَأَدِّ عني ســـلامًا زاكيًـــا أَرِجًـــــــــــا لا لغوَ فيه ولا إثمًا ولا كذبًا
وقل عُبَيْدُكَ يرجو منكَ مَكرُمةً رَجاءَ عافٍ لوعدٍ ظلَّ مرتَقِبًا

وقال أيضا (4/304):
فبـــــــــلِّغْ –هــــــــــداكَ اللهُ- عني تحيــــــــةً مُعطَّـــــــرةً الأنفـاسِ محروسةَ الصَّفْوِ
وقُلْ عَبْدُكَ المسكينُ يحيى سَرَتْ به جِراحُ التَّنَائي فائْتِــها أحسنَ الأَسْوِ

… … – والإمام العارف الشاعر أعلم الشعراء وأشعر العلماء: شرف الدين أبو عبد الله محمد بن سعيد البوصيري [ت696هـ] صاحب القصائد الغراء في مدح النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، وأشهرها قصيدته المسمّاة “الكواكب الدرية في مدح خير البرية” والمشهورة بـ”البردة” أو “البُرأة”، التي يقول فيها:
ما سامني الدهرُ ضيمًا واستجَرْتُ به إلا ونِلْـــــــــتُ جِـــــــوارًا منه لم يُضَــــــــمِ
ولا التمستُ غِنَى الدارين مِن يَـــــــده إلا استلمتُ الندى مِن خير مُستَلَمِ

ويقول في همزيته أيضًا:
فَأَغِثْنا يا مَنْ هُوَ الغَــــــوْثُ والغَيْـ ـثُ إذا أَجْهَدَ الوَرى الّلأْواءُ
والجوادُ الذي بِهِ تُكْشَفُ الغُمْـ ـمَةُ عَنّا وَتُكْشَـــــــفُ الحَـوْباءُ
يا رَحِيْمًـــــــا بالمؤمنــــــِيْنَ إِذا مــــــا ذَهِلَتْ عَنْ أَبْنــائِها الرَضْـعاءُ
جُـــــدْ لِعاصٍ وَمَا سِواى هُوَ العا صِي وَلكِنْ تَنَكُّرِي اسْتِحْياءُ
يانَبِـــــــيَّ الهُدَى اسْتِغــــــاثَةُ مَلْهُو فٍ أَضَرَّتْ بِحـــــالِهِ الحَـــــوْباءُ

– والإمام المجتهد شيخ الإسلام تقي الدين ابن دقيق العيد [ت702هـ]، في قصيدته التي مدح بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والتي أولها:
شرف المصطفى رفيـــــــعٌ عمــــادُهْ لَيْسَ يُحصَى لكثـــــــرةٍ تعدادُهْ
يَا رســــــــــولَ الملـــــــــــيك دعوةُ مَن زاد به شوقُـــــــه وصحَّ وِدادُهْ
لَكَ أشكو حالًا مِن الدين والدنــ ــــيا شديدٌ غلــــــوه واقتصادهْ
هو حَـــــــــــــدٌّ بَيْنَ الســـرور وبَيْنِي كدَّرَ العيـــــشَ عكْسُه واطرادُهْ
فعليك السلام من ذي اشتياق أنت فِي الحشر كنزه وعتادهْ

وقد ذكرها الحافظ ابن حجر العسقلاني في كتابه “رفع الإصر عن قضاة مصر”، وفي آخرها:
– والإمام العلامة كمال الدين بن الزملكاني الشافعي [ت727هـ] شيخ الشافعية في عصره، وذلك في قصيدته التي مطلعُها:
أهـــــــــواكِ يا ربة الأستـــــــــار أهــــــــواكِ وإن تبــــــــاعدَ عن مغنـــــــــــاي مغنـــــــــاكِ

… وقد ذكرها العلّامة المؤرخ صلاح الدين الصفدي في كتابيه “أعيان العصر وأعوان النصر”، و”الوافي بالوفيات”، يقول في آخرها (وفيها تعريض بذم مَن أنكر التوسل أو التشفع بجاه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم):
يا صاحبَ الجــــــاه عند الله خالقِــــه ما رَدَّ جاهَـــــــــــك إلا كلُّ أفّــــــــــــــــــــــــــاكِ
أنت الوجيــــــه على رغم العِــــدا أبدا أنت الشفيــــــــــــــــعُ لفتّـــــــاكٍ ونسّـــــــــــاكِ
يا فــــــرقةَ الزَّيْــــغ لا لُقِّيــــتِ صـــــالحةً ولا شفى الله يومــــــًا قلب مرضــــــــــاكِ
ولا حظيتِ بجــــــــــاه المصطفى أبدًا ومَــــن أعانـــــــــكِ في الدنيـــــــــــا ووالاكِ
يا أفضلَ الرســــل يا مَوْلى الأنام ويا خيرَ الخـــــلائق من إنــــــــسٍ وأمْــــــــلاك
ها قد قصدتُكَ أشكو بعضَ ما صَنَعَتْ فِيَّ الذنوبُ وهذا ملجأ الشاكي
قد قيَّدَتْني ذنوبي عن بلوغ مــــــدى قصدي إلى الفوز منها فهي أشراكي
فاستَغْفِرِ اللهَ لي، واسْـــــــألْه عصمته فيما بقــــــي، وغِنًى مِن غير إمســـــــاك
عليك من ربِّك اللهِ الصـــــــلاةُ، كمــا منا عليك الســــــــــــلامُ الطيِّبُ الزاكي

قال العلامة الصفدي بعد أن ذكرها في كتابيه: [ولم أقف للشيخ رحمه الله تعالى على نظم هو خير من هذه القصيدة؛ لقصدها الصالح] اهـ.
– والإمام الأديب جمال الدين بن نُباتة الفارقي [ت768هـ] في قصيدته اللامية، وهي في ديوانه، وذكرها الإمام التاج السبكي في “معجم الشيوخ” (ص: 462، ط. دار الغرب الإسلامي)، وذكر أنه سمعها منه:
يا خاتم الرسل لي في المذنبين غدًا على شــــــــــــــفاعتك الغراء تعويل
صلى عليك الذي أعطـــاك منـــــــــــــزلةً شفيعها في مقام الحشر مقبول
أنت المَــــــــــلاذُ لنا دنيــــــــــا وآخِـــــــــرةً فباب قصدك في الدارين مأهول

… … …- والإمام الأديب بهاء الدين السبكي الشافعي [ت773هـ] ابن قاضي القضاة وشيخ الشافعية تقي الدين السبكي، وذلك في تائيته التي أنشدها أمام الحجرة النبوية الشريفة، وهي في “المجموعة النبهانية في المدائح النبوية” (1/534، ط. دار الفكر) وفيها يقول:
ألَا يا رســــولَ الله جئــــــــتُكَ زائرًا فخُذْ بيدي واجعل قراي بجَنَّةِ
أتيتُ وشكلي ذو مقدِّمتَـــين مِن ذنوب وتَسْـــآلٍ، فجُدْ بالنتيجةِ
وإني ظلمْتُ النفسَ كلَّ ظُــلامة وجئتُكَ، فاستغفرْ لنفسٍ ظَلُومةِ
وكُن لي إذا ما فَــــــرَّ منيَ والدي وأمـــي وأولادي وأهـــلي وإخوتي
وكن بهـــــــــــــــمُ برًّا؛ فإن جميعَهم لِبِـــرِّكَ محتاجون في كل بُــــــــــرْهةِ

– والإمام المحدث جمال الدين محمد بن عبد الله بن ظهيرة القرشي الشافعي [ت819هـ]، كما في “المجموعة النبهانية” (3/142) في قوله:
يا سيد الرُّسْلِ يا أزكى الورى نسبًا ومَن فضـائلُه لم يُحصِـها جِيـلُ
محمـدٌ عبـدُكَ المسكينُ ناظـمُــــــــها يبغي نوالًا له بالبــاب تطفـيــــلُ

– والإمام شمس الدين محمد بن كميل المنصوري الشافعي [ت848هـ]، كما في “المجموعة النبهانية” (1/484) في قوله:
يا سيدي يا رســـولَ الله خُذ بِيَدي فأنتَ قَصْدي وأنتَ السُّؤلُ والأرَبُ
يا صاحبَ النجدةِ العُظمَى لِمُعْتَلِقٍ بِجـــــــــــاهِه ولذاكَ اليـــــــــــومِ أرتَقِــــــــبُ
عُبَــــــيْـدُكَ ابنُ كُمَـيْلٍ ســــــائلٌ أَرَبًـــــــــــا ودمعُـه ســــــــــائلٌ والقلبُ مكتَـــــــــــئِبُ

– وحافظ الدنيا وقاضي القضاة الإمام شهاب الدين ابن حجر العسقلاني الشافعي [ت852هـ] أمير المؤمنين في الحديث، وقد أفاض في أشعاره ومدائحه النبوية بالاستغاثة والتوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك كله مبسوط في ديوانه، وهو مطبوع بحيدر آباد الدكن بالهند سنة 1381هـ- 1962م، فمن ذلك (ص: 26-27):
نبـــــــيَّ الله يا خيــــــــرَ البرايــــــــــــــا بجـــــــاهك أتَّقي فصلَ القضــــاء
وأرجو يا كريــــــــم العفـــــو عمـــا جنَـــتْه يدايَ يا ربَّ الحِبَــــــــــــــــاء
فقل يا أحمدُ بنَ عليٍّ اذْهَبْ إلى دار النعيـــــــــــــم بلا شقــــــــــاءِ
عليك ســلامُ ربِّ الناس يتلو صلاةً في الصباح وفي المساء
ومن ذلك قوله مخاطبًا المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم (ص: 10):
فاشفع لمادِحك الذي بِكَ يتَّقي أهـــوالَ يوم الدِّينِ والتعذيبِ
فلأحمـــــــدَ بنِ عليٍّ الأثَريِّ في مَأهُولِ مَدحِك نَظْمُ كلِّ غريبِ
قد صحَّ أن ضَـــناه زاد، وذنبُه أصلُ السِّقَام وأنتَ خيرُ طبيبِ
صلَّى عليــك وسلَّم اللهُ الذي أعطاك فضلًا ليس بالمَحسوبِ
ومن مخاطبته للمصطفى صلى الله عليه وآله وسلم أيضًا قولُه (ص: 16):
يا سيدي يا رســـــولَ الله قد شَرُفَــــــــــــــتْ قصائدي بمديـــحٍ فيك قد رُصِـــــفا
مدحتُك اليوم أرجو الفضل منك غدًا من الشفاعة، فالْحَــــــــظْني بها طرفا
ببــــــــابِ جــــــــودِك عبدٌ مذنِـــبٌ كَلِــــــفٌ يا أحسنَ الناسِ وجـــــهًا مشرقًا وقفا
بكُم توسَّلَ يرجو العفــــــــوَ عن زلـــــــــلٍ مِن خَـــوفه جَفْنُه الهــــامي لقد ذَرَفـــــــا
ومن ذلك أيضًا قوله مادحًا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم عند ختم سنن أبي داود (ص: 20):
يا سيدَ الرُّسْل الذي فاق الورى بأْسًــــا سمَا كلَّ الوُجودِ وَجُـــــودا
هذي ضـــــراعةُ مُذنِبٍ مُتمسِّــكٍ بولائــــكم مِن يومِ كان وليــــــــــــدا
يرجو بك المحيا السعيد وبعثه بعد الممات إلى النعيم شهودا
صلَّى عليـــك وســـلَّم اللهُ الذي أحيـــــا بك الإيمـــــان والتوحيــدا

وقال مخاطبًا المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم ومادحًا له (ص: 29):
وكم مُذنبٍ وَافَاه يطلب نجدةً تُنَجِّيه في الأُخرى فأنجَى وأنْجَدَا
أيا خيرَ خلقِ اللهِ دعوةُ مذنبٍ تَخَـــــــــوَّفَ مِن نار الجحيم تَوَقُّــــدا
له سندٌ عــــــالٍ بمدحِـــــك نَيّـــــِرٌ وبابُـــــك أمسى منه أسْـــنَى وأَسْنــدا
وأنت الذي جنَّبْتَنا طارقَ الرَّدَى وأنت الذي عرَّفْتَنا طرق الهُدَى

– والحافظ السخاوي [ت902هـ] في “الضوء اللامع” (5/44 ط. مكتبة الحياة) كما في ترجمة (نقيب الأشراف السيد العفيف عبد الله بن محمد الحسيني الحلبي الشافعي):
[لَقِيتُه بمنزله بحلب وهو مفلوج فأنشدني قوله:
يا رســول الله إني (كذا) لأرجو أن تَكَفَّل يومَ عرضي
بإدخالي الجنان بلا حساب إذا كنت النوافل لي وفرضي
وهـا أنت المؤمَّـل للبرايا فحقًّا بعضــنا أولى ببعضِ

قيل: ولو قال: عُبَيدُك يا رسول الله يرجو … شفاعتك العميمة يومَ عرضِ لكان أحسن؛ فإن ما قاله من بحر الوافر مع اختلاله في الوزن] اهـ.
– والحافظ العلّامة المجتهد جلال الدين السيوطي الشافعي [ت911هـ]، كما نقله العلامة النبهاني في “شواهد الحق” (ص: 221، ط. المطبعة الميمنية سنة 1323هـ):
يا أكرمَ الرُّسْل، يا من في إشــارته حَوْزُ المُــــــنَى وبلوغُ القصــــد مِن أَمَمِ
ومن غدا في الورى توشيحُ مِلَّــــــتِه يزهو على الزاهِرَيْن الروضِ والنُّــــجُمِ
تَعَطُّـــــــــفًا لِمُحِـــبٍّ فيــــك، ليــس له تَعَـــــطُّفٌ عنــك، معدود مِن الخَـــــــدَمِ
يا صاحبَ العَلَمِ الهادي لِقــاصده حسنَ البيان، أَجِرْني في حِمَى العَلَمِ
فمطلَبي أنتَ أَوْلَى في النَّجــاح له وأنت أَدْرَى به، يا مُسْــــــــبِغَ النِّعَـــــــــــــمِ
من كان فيما عرى تجريد مقصده له رأى منــــــــــك حبلا غير مُنفَصِـــــــــم
ومَن يَلُذْ بحِمَــــاه، وهـــو مَلْجَــــــؤُنا فلا اعتــــــراض بما يخــــــــشاه مِن نِقَــم
عليه منا صــــــــــــلاةٌ ما لها عــــــــــددٌ تفصيــــلُ مُجْمَـــــــــــــلها يربو على الدِّيَـم

– والشيخ عبد العزيز بن علي الزمزمي المكي الشافعي [ت963هـ] في قصيدته “الفتح المبين في مدح شفيع المذنبين”، كما في “المجموعة النبهانية في المدائح النبوية” (1/200):
يا عزيزَ الجَنَـــــــــابِ دعوةُ عبدٍ لك في الرِّقِّ يستـحقُّ الوَلاءَ
كيف عبدُ العزيز عبدُك يَلقَى ذِلَّـــــــةً أو إضـــــــــاقةً أو شـــــقاءَ

ويقول الشيخ العيدروس في ترجمته في “النور السافر”: ومن شعره الحسن أبيات الفرج التي استغاث فيها بصاحب الخلق الحسن سيد المرسلين ورسول رب العالمين وهي هذه:
يا رسولَ الله عجِّـــــــــــلْ بالفرج قد توالى الكرب واشتد الحرجْ
يا رسول الله في جاهِــــــــك لي سَـــــــــــــعَةٌ إن ضـــــــاق بي كلُّ نَهَجْ
قســــــــــمًا بالله مـــا لاذ امــــــــــــرؤٌ بك في خطبٍ رجـــــــــا إلا انبــــلجْ

– وسيدي الإمام العارف العلامة محمد بن أبي الحسن البكري الصِّدِّيقي الشافعي المصري [ت993هـ] شيخ أهل عصره، ومقدَّم علماء الأزهر الشريف في مصره، في لاميته الشهيرة وقد ذكرها المؤرخ العيدروس في “النور السافر”، وسماها: “الوسيلة العظيمة”، والعلامة ابن العماد الحنبلي في “شذرات الذهب”:
ما أرســــل الرحمــــن أو يرســلُ من رحمـــــــــة تصعــــد أو تنـــــزلُ
في ملكــــــــوت الله أو مُلكــــــــه من كل ما يختص أو يشـــــــمل
إلا وطـــــــه المصــــــطفى عبـــــدُه نبيُّــــــــــــــه مُختــــــــــــــاره المُرسَـــــــل
واســـــــــــطةٌ فيـــــها وأصـــــــــلٌ لها يعـــــلم هـــــذا كلُّ مَن يعقِـــــــــــــــل
فلُذْ به في كلِّ مــــــا ترتجــــــــــــي فهـــو شفيـــــــــــــــــعٌ دائمًا يُقبَـــــــل
وعُــــذْ به مِن كل ما تختـــــــــشي فإنـــه المَأمَـــــــــــــنُ والمَعْقِـــــــــــــــل
وحُــــــطَّ أحمـــــــــــالَ الرجــا عنده فإنـه المرجِــــــــــــعُ والمَوئِــــــــــــــــــل
ونـــــــــــادِهِ إنْ أزْمــــــــــةٌ أَنشَبَــــــــــتْ أظفــــارَها واستحكم المُعضِـل
يا أكــــــــــرمَ الخــــــلقِ على ربــــــــهِ يا خيرَ مَن فيــــــهم به يُسْـــــــــأَل
قد مسَّني الكــــربُ وكم مــــــــــرةٍ فرَّجْــــــتَ كربًا بعضُــــه يُذهِــــــــل
ولن ترى أعجـــــــــــزَ مني فمـــــــــــــا لِشِــــــــدَّةٍ أقــــــــوى ولا أحمـــــــلُ
فبالذي خصَّــــــــــــــــــك بين الورى برتبـةٍ عنها العُــــــــلَى تَنـــــــــــــــــزلُ
عَجِّــــــــلْ بإذهـــاب الذي أشتكي فإن توقَّفْــتَ فمَـــــن أســـــــــــألُ
فحيلتي ضاقت وصبري انقضى ولست أدري ما الذي أفعل
فأنت بــــــــــــابُ الله أيُّ امـــــــــــــــرئٍ أتـــــــاه مِن غيـــــرك لا يدخــــل
صلى الله عليك ما صــــــــــافحَتْ زهرَ الروابي نسمــــــــــة شَـمألُ
مُسَـــــــــــــلِّمًا ما فاح عطرُ الحمى وضـــــــاع منه النَّــــــــدُّ والمَنْدَلُ
والآلِ والأصحـــــــــاب ما غرَّدَتْ ســــاجعةٌ أُمْلُودُهـــا مُخْضَــــــــلُ

– ومفتي الحنفية بدمشق في زمنه الشيخ محمد بن إبراهيم العمادي [ت1135هـ]، كما في “المجموعة النبهانية” (2/467) في قصيدته التي أرسلها مع الركب إلى المدينة المنورة:
فاشْفَعْ لعَبدِكَ كي يزورَكَ سيدي ويرى ضريحًا بالرســالة مُشرِقًا

والاستغاثة بالأنبياء مما أجمعت عليه المذاهب الفقهية المتبوعة وكلامهم في ذلك كثير لا مجال لاستيعابه وبسطه؛ حيث اتفقت المذاهب الأربعة على جواز التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم والاستغاثة به بل واستحباب ذلك، وعدم التفريق بين حياته في الدنيا وانتقاله الشريف صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يشذ إلا ابن تيمية حيث فرق بين التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في حياته وبعد انتقاله صلى الله عليه وآله وسلم ولا عبرة بشذوذه.
فمن أقوال الحنفية:
قال العلامة خير الدين الرملي الحنفي في “الفتاوى”: [وأما قولهم: يا شيخ عبد القادر شيء لله، فهو نداء، وإذا أضيف شيء لله فما الموجب لحرمته! ولا يجوز الاغترار بما في “قيد الشرائع” و”نظم الفوائد”: ومن قال شيء لله يكفر.. إلخ؛ إذ لا وجه لذلك، وكيف ذلك مع قولهم: لا يُخرِجُ المؤمنَ من الإيمان إلا جحودُ ما أدخله، وقولهم: الكفر شيء عظيم؛ فلا يكفر المسلم بما اختلف فيه ولو برواية ضعيفة، ومعاذ الله أن يوجد الكفر بذلك.. إلى أن قال: وأما إنكار كرامات الأولياء على الإطلاق فالجواب ما قاله العلامة اللقاني في “هداية المريد”: ومن يكذب بكرامات الأولياء فلا بحث معه؛ لأنه مكذب بما أثبتته السُّنة] اهـ.
وقال العلامة أبو سعيد الخادمي الحنفي في “البريقة المحمودية في شرح الطريقة المحمدية” (1/203، ط. دار إحياء الكتب العربية): [ويجوز التوسلُ إلى الله تعالى والاستغاثةُ بالأنبياء والصالحين بعد موتهم؛ لأن المعجزة والكرامة لا تنقطع بموتهم، وعن الرملي أيضًا بعدم انقطاع الكرامة بالموت، وعن إمام الحرمين: ولا ينكر الكرامةَ ولو بعد الموت إلا رافضيٌّ، وعن الأجهوري: الولي في الدنيا كالسيف في غمده، فإذا مات تجرد منه فيكون أقوى في التصرف. كذا نقل عن “نور الهداية” لأبي علي السنجي] اهـ.
وقال العلامة المحقق ابن عابدين فى حاشيته “رد المحتار على الدر المختار” (2/186، ط. دار الفكر) ذاكرا أن من آداب الاستسقاء أن يكون بالمسجد النبوى الشريف: [فينبغى الاجتماع للاستسقاء فيه؛ إذ لا يستغاث وتستنزل الرحمة فى المدينة المنورة بغير حضرته ومشاهدته صلى الله عليه وسلم فى كل حادثة] اهـ.
ومن أقوال المالكية:
قال الإمام ابن الحاج المالكي في كتابه “المدخل” (1/254-260، ط. دار التراث) الذي ألفه للتحذير من البدع: [فإن كان الميت المزار ممن تُرجَى بركته فيُتَوَسَّل إلى الله تعالى به، وكذلك يتوسل الزائر بمن يراه الميت ممن ترجى بركته إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بل يبدأ بالتوسل إلى الله تعالى بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، إذ هو العمدة في التوسل والأصل في هذا كله والمُشَرِّع له، فيتوسل به صلى الله عليه وآله وسلم وبمن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.. ثم يتوسل بأهل تلك المقابر أعني بالصالحين منهم في قضاء حوائجه ومغفرة ذنوبه.. ويجأر إلى الله تعالى بالدعاء عندهم ويكثر التوسل بهم إلى الله تعالى; لأنه سبحانه وتعالى اجتباهم وشرفهم وكرمهم، فكما نفع بهم في الدنيا ففي الآخرة أكثر، فمن أراد حاجة فليذهب إليهم ويتوسل بهم؛ فإنهم الواسطة بين الله تعالى وخلقه، وقد تقرر في الشرع وعلم ما لله تعالى بهم من الاعتناء، وذلك كثير مشهور، وما زال الناس من العلماء والأكابر كابرًا عن كابر مشرقًا ومغربا يتبركون بزيارة قبورهم ويجدون بركة ذلك حسًّا ومعنًى، وقد ذكر الشيخ الإمام أبو عبد الله بن النعمان رحمه الله في كتابه المسمى “بسفينة النجاء لأهل الالتجاء” في كرامات الشيخ أبي النجاء في أثناء كلامه على ذلك ما هذا لفظه: “تحقق لذوي البصائر والاعتبار، أن زيارة قبور الصالحين محبوبة لأجل التبرك مع الاعتبار، فإن بركة الصالحين جارية بعد مماتهم كما كانت في حياتهم، والدعاء عند قبور الصالحين والتشفع بهم معمول به عند علمائنا المحققين من أئمة الدين” انتهى..
وأما عظيم جناب الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين: فيأتي إليهم الزائر ويتعين عليه قصدهم من الأماكن البعيدة، فإذا جاء إليهم فليتصف بالذل والانكسار والمسكنة والفقر والفاقة والحاجة والاضطرار والخضوع، ويحضر قلبه وخاطره إليهم وإلى مشاهدتهم بعين قلبه لا بعين بصره; لأنهم لا يبلون ولا يتغيرون، ثم يثني على الله تعالى بما هو أهله، ثم يصلي عليهم ويترضى عن أصحابهم، ثم يترحم على التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، ثم يتوسل إلى الله تعالى بهم في قضاء مآربه ومغفرة ذنوبه ويستغيث بهم ويطلب حوائجه منهم ويجزم بالإجابة ببركتهم ويقوي حسن ظنه في ذلك فإنهم باب الله المفتوح، وجرت سنته سبحانه وتعالى في قضاء الحوائج على أيديهم وبسببهم. ومن عجز عن الوصول إليهم فليرسل بالسلام عليهم وذكر ما يحتاج إليه من حوائجه ومغفرة ذنوبه وستر عيوبه إلى غير ذلك، فإنهم السادة الكرام، والكرام لا يردون من سألهم ولا من توسل بهم ولا من قصدهم ولا من لجأ إليهم..
وأما في زيارة سيد الأولين والآخرين صلوات الله عليه وسلامه: فكل ما ذكر يزيد عليه أضعافه أعني في الانكسار والذل والمسكنة; لأنه الشافع المشفع الذي لا ترد شفاعته ولا يخيب من قصده ولا من نزل بساحته ولا من استعان أو استغاث به؛ إذ إنه عليه الصلاة والسلام قطب دائرة الكمال وعروس المملكة.. فمن توسل به أو استغاث به أو طلب حوائجه منه فلا يرد ولا يخيب لما شهدت به المعاينة والآثار، ويحتاج إلى الأدب الكلي في زيارته عليه الصلاة والسلام، وقد قال علماؤنا رحمة الله عليهم: إن الزائر يشعر نفسه بأنه واقف بين يديه عليه الصلاة والسلام كما هو في حياته؛ إذ لا فرق بين موته وحياته أعني في مشاهدته لأمته ومعرفته بأحوالهم ونياتهم وعزائمهم وخواطرهم، وذلك عنده جلي لا خفاء فيه.. فالتوسل به عليه الصلاة والسلام هو محل حط أحمال الأوزار وأثقال الذنوب والخطايا; لأن بركة شفاعته عليه الصلاة والسلام وعظمها عند ربه لا يتعاظمها ذنب؛ إذ أنها أعظم من الجميع، فليستبشر من زاره ويلجأ إلى الله تعالى بشفاعة نبيه عليه الصلاة والسلام من لم يزره اللهم لا تحرمنا من شفاعته بحرمته عندك آمين يا رب العالمين. ومن اعتقد خلاف هذا فهو المحروم؛ ألم يسمع قول الله عز وجل: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَحِيمًا﴾ فمن جاءه ووقف ببابه وتوسل به وجد الله توابا رحيما; لأن الله عز وجل منزه عن خلف الميعاد، وقد وعد سبحانه وتعالى بالتوبة لمن جاءه ووقف ببابه وسأله واستغفر ربه، فهذا لا يشك فيه ولا يرتاب إلا جاحد للدين معاند لله ولرسوله صلى الله عليه وآله وسلم نعوذ بالله من الحرمان] اهـ.
ومن أقوال الشافعية:
قال الإمام النووي في “المجموع شرح المهذب” (8/274، ط. دار الفكر) في آداب زيارة النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم: [ثم يرجع إلى موقفه الأول قبالة وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويتوسل به في حق نفسه ويستشفع به إلى ربه سبحانه وتعالى، ومِن أحسن ما يقول ما حكاه الماوردي والقاضي أبو الطيب وسائر أصحابنا عن العتبي مستحسنين له قال: “كنت جالسا عند قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فجاء أعرابي فقال: السلام عليك يا رسول الله، سمعت الله يقول: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَحِيمًا﴾، وقد جئتك مستغفرًا من ذنبي مستشفعا بك إلى ربي”] اهـ.
وقال الإمام القسطلاني في “المواهب اللدنية” (4/593): [وينبغي للزائر أن يكثر من الدعاء والتضرع والاستغاثة والتشفع والتوسل به صلى الله عليه وآله وسلم؛ فجدير بمن استشفع به أن يشفعه الله تعالى فيه] اهـ.
وقال الإمام العلامة شيخ الشافعية شهاب الدين أحمد بن حمزة الرملي الشافعي [ت957هـ] في “فتاواه” التي جمعها ولده الشمس الرملي فقيه الديار المصرية في عصره ومرجعها في الفتيا (4/382-383، ط. المكتبة الإسلامية):
[(سُئِلَ) عما يقع من العامة من قولهم عند الشدائد: يا شيخ فلان! يا رسول الله! ونحو ذلك من الاستغاثة بالأنبياء والمرسلين والأولياء والعلماء والصالحين، فهل ذلك جائز أم لا؟ وهل للرسل والأنبياء والأولياء والصالحين والمشايخ إغاثة بعد موتهم؟ وماذا يُرَجِّح ذلك؟
(فأجاب) بأن الاستغاثة بالأنبياء والمرسلين والأولياء والعلماء والصالحين جائزة وللرسل والأنبياء والأولياء والصالحين إغاثة بعد موتهم ; لأن معجزة الأنبياء وكرامات الأولياء لا تنقطع بموتهم . أما الأنبياء فلأنهم أحياء في قبورهم يصلون ويحجون كما وردت به الأخبار وتكون الإغاثة منهم معجزة لهم . والشهداء أيضا أحياء شوهدوا نهارا جهارا يقاتلون الكفار . وأما الأولياء فهي كرامة لهم فإن أهل الحق على أنه يقع من الأولياء بقصد وبغير قصد أمور خارقة للعادة يجريها الله تعالى بسببهم والدليل على جوازها أنها أمور ممكنة لا يلزم من جواز وقوعها محال وكل ما هذا شأنه فهو جائز الوقوع وعلى الوقوع قصة مريم ورزقها الآتي من عند الله على ما نطق به التنزيل وقصة أبي بكر، وأضيافه كما في الصحيح وجريان النيل بكتاب عمر ورؤيته وهو على المنبر بالمدينة جيشه بنهاوند حتى قال لأمير الجيش يا سارية الجبل محذرا له من وراء الجبل لكمين العدو هناك، وسماع سارية كلامه وبينهما مسافة شهرين، وشرب خالد السم من غير تضرر به . وقد جرت خوارق على أيدي الصحابة والتابعين ومن بعدهم لا يمكن إنكارها لتواتر مجموعها، وبالجملة ما جاز أن يكون معجزة لنبي جاز أن يكون كرامة لولي لا فارق بينهما إلا التحدي] اهـ.
وقال الشيخ العلامة الشوبري الشافعي [ت1069هـ] شافعي زمانه وفقيه عصره في فتوى وردت إليه عن كرامات الأولياء والاستغاثة بهم بعد الوفاة:
[ويجوز التوسل بهم (يعنى الأولياء) إلى الله تعالى والاستغاثة بالأنبياء والمرسلين والعلماء والصالحين بعد موتهم؛ لأن معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء لا فارق بينهما إلا التحدى، أما الأنبياء فلأنهم أحياء فى قبورهم يصلون ويحجون كما وردت به الأخبار الصحيحة فتكون الإغاثة بهم معجزة لهم، والشهداء أحياء أيضا عند ربهم بالنص القرآنى، وشوهدوا جهارا يقاتلون الكفار، أما الأولياء فهى كرامة لهم فإن أهل الحق على أنه يقع للأولياء بقصد وبغير قصد أمور خارقة للعادة يجريها الله تعالى بسببهم، والدليل على جوازها: أنها أمور ممكنة لا يلزم من جوازها ووقوعها محال أصلًا، وكل ما هذا شأنُه فهو ممكن الوقوع] اهـ نقلا عن كتاب “سعادة الدارين” (1/228-229، ط. مطبعة جريدة الإسلام) للعلامة إبراهيم السمنودي الأزهري.
ومن الحنابلة:
قال ابن قدامة في “المغني” (3/599، ط. دار الفكر): [ثم تأتي القبر فتولى ظهره القبلة وتستقبل وتقول: السلام عليك أيها النبي صلى ورحمة الله وبركاته السلام عليك يا نبي الله وخيرته من خلقه أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أشهد أنك قد بلغت إلى قوله : اللهم إنك قلت وقولك الحق: ?ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما? وقد أتيتك مستغفرا من ذنوبي مستشفعا بك إلى ربي فأسألك يا رب أن توجب لي المغفرة كما أوجبتها لمن أتاه في حياته اللهم اجعله أول الشافعين وأنجح السائلين وأكرم الآخرين والأولين برحمتك يا أرحم الراحمين ثم يدعوا لوالديه ولإخوانه وللمسلمين أجمعين] .اهـ
والمقام يضيق عن استقصاء فعل السلف وأقوال العلماء في ذلك، فالأمر مما أجمع العلماء عليه ولا خلاف فيه بين أحد من السلف أو الخلف إلا من شذ ممن لا عبرة بقوله.
والقول بجواز الاستغاثة بالأنبياء والصالحين بعد وفاتهم هو الذي عليه علماء الأزهر ومشايخه بصفاء فهمه ووسطيته واعتدال منهجه عبر القرون، ولم تكد هذه البدعة -بدعة التكفير بالاستغاثة بالأنبياء والصالحين والاستمداد منهم- تدب في جسد الأمة حتى انبرى بياطرة العلم وأساطين الفهم من علماء الأزهر الشريف بالرد الوافي والبيان الكافي والدواء الشافي، وبينوا أنها بدعة ضلالة تخالف المنقول والمعقول وما استقر عند علماء المسلمين وعامتهم، وأنها عين منهج الخوارج الذين هم شرار الخلق عند الله، والذين كان أُسُّ ضلالتهم: أنهم عمدوا إلى آيات نزلت في المشركين فجعلوها في المسلمين.
– فهذا شيخ الأزهر البرهان إبراهيم الباجوري الشافعي [ت1277هـ] يقول في آخر حاشيته على شرح الغزي على متن أبي شجاع في الفقه الشافعي (2/509، ط. مطبعة بولاق 1285هـ):
[وقد حصلت في هذه الكتابة بركة؛ بسبب أني كتبتُ بعضَ عباراتٍ في الحرم المكي تجاه الكعبة المشرفة، زادها الله تشريفًا وتكريمًا ومهابة وتعظيمًا، وكذلك كتبتُ بعضَ عباراتٍ في الحرم المدني بجنب منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه، ورزقنا العَوْدَ إليه، وأقول عنده ولديه: مَدَدَكَ يا رسولَ الله صلى الله عليك وسلم.. وأقول أيضًا: مَدَدَكُمْ يا أهلَ البيت رضي الله عنكم] اهـ.
– وهذا شيخ الأزهر ونقيب السادة الأشراف السيد علي محمد الببلاوي المالكي [ت1323هـ] يقرظ كتاب العلامة النبهاني “شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق صلى الله عليه وآله وسلم” واصفًا إياه بأنه “أحسن ما أُلِّف في هذا الموضوع”.
– وهذا شيخ الإسلام عبد الرحمن الشربيني الشافعي [ت1326هـ] يقول في تقريظه على الكتاب السابق، وكان وقتَ كتابته شيخًا للأزهر:
[فقد وقفت على كتاب “شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق”.. فإذا هو شاهد عدل، آتٍ بالقول الحق والكلام الفصل، جدير بأن يُوسَم كما وسمه مؤلفه بـ”شواهد الحق”، حجةٌ قائمة على طائفة الضالِّين المضلين، صارم في نحر المبتدعة الملحدين، تحيا به السُّنة، وتموت به البدعة] اهـ.
وأما المعقول: فقد قرره علماء التوحيد والكلام أبدع تقرير وأحكمه، وهم المرجع في معرفة قواعد الإلهيات والنبوات، وتقرير ما يجوز وما يجب وما يستحيل في حق الله تعالى وفي حق رسله صلوات الله عليهم وسلامه:
يقول الإمام العلامة المحقق التفتازاني في “شرح المقاصد” (2/79): [لما كان إدراك الجزئيات مشروطا عند الفلاسفة بحصول الصورة في الآلات فعند مفارقة النفس وبطلان الآلات لا تبقى مدركة للجزئيات ضرورة انتفاء المشروط بانتفاء الشرط، وعندنا لما لم تكن الآلات شرطا في إدراك الجزئيات؛ إما لأنه ليس بحصول الصورة لا في النفس ولا في الحس، وإما لأنه لا يمتنع ارتسام صورة الجزئي في النفس، بل الظاهر من قواعد الإسلام أنه يكون للنفس بعد المفارقة إدراكات متجددة جزئية واطلاع على بعض جزئيات أحوال الأحياء سيما الذين كان بينهم وبين الميت تعارف في الدنيا؛ ولهذا ينتفع بزيارة القبور والاستعانة بنفوس الأخيار من الأموات في استنزال الخيرات واستدفاع المُلِمّات؛ فإن للنفس بعد المفارقة تعلقا ما بالبدن وبالتربة التي دُفِنت فيها، فإذا زار الحيُّ تلك التربة وتوجهت تلقاء نفس الميت حصل بين النفسين ملاقاة وإفاضات] اهـ.
ولمفتي الديار المصرية الأسبق خاتمة المحققين الشيخ العلامة محمد بخيت المطيعي كلام متين في تقرير الدليل العقلي ننقله على طوله لما فيه من التحقيق؛ حيث يقول في رسالته “تطهير الفؤاد عن دنس الاعتقاد” (ص: 13-15 المطبوع بمقدمة شفاء السقام للإمام التقي السبكي):
[وقد تقرر عقلا ونقلا: أن توقُّفَ الممكنات بعضها على بعض لنقص في الممكنات لا لعجز في الفاعل جل شأنه، وهذا مما كاد أن يكون بديهيًّا، وكما جاز أن يتوسط حي في قضاء مصلحة حي والفعل لله وحده يجوز أن تتوسط روح ميت في قضاء مصلحة حي أو ميت والفعل لله وحده، والأرواح باقية عل الحياة، وأفعالها في عالم الملك إنما تظهر بواسطة البدن ما دام حيًّا بالحياة الحيوانية، فإذا مات وفقد الحياة الحيوانية بقيت نفسه وروحه على حياتها الملكوتية، وتعلقت بجسمه تعلقًا آخر على وجه آخر يعلمه الله تعالى كما دل عليه نعيم القبر وعذابه.
فإذا كان الفعل في الواقع ونفس الأمر إنما هو للنفس والروح، والجسم آلة يظهر به الفعل، والروح باقية خالدة، ففعلها باقٍ وتصرفها في أفعالها لا يتغير إلا بعدم ظهور الأفعال بواسطة البدن، فلا مانع عقلا أن يكون بعض أرواح الأولياء والصالحين بعد موت الأجساد سببا بدعائها وتوجهها إلى الله تعالى في قضاء حوائج بعض الزائرين لهم المتوسلين بهم بدون أن يكون لها مدخل في التأثير، وأي فرق بين التوسط بالأحياء في قضاء الحوائج مع اعتقاد أن لا فاعل إلا الله، وبين توسط أرواح الأموات مع اعتقاد ذلك!
والقولُ بأن ملوك الدنيا إنما يحتاجون إلى الوسائط لجواز الغفلة عليهم عن حوائج الخلق بخلاف العليم الخبير سفسطة ظاهرة وتمويه على العقول؛ فإن الملك ووسائطه واسطة في قضاء حوائج الطالب من الله تعالى؛ إذ لا فاعل سواه، فلو كان اتخاذ الواسطة شركا بعد اعتقاد أن المؤثِّر هو الله وحده لكان معاونة بعضنا لبعض في قضاء المصالح شركًا، وهذا باطل بالضرورة؛ لما يترتب عليه من بطلان الشرائع وفساد نظام العالم وعدم نسبة الأفعال الاختيارية إلى فاعليها، فتبطل الحدود والزواجر ويختل النظام. فعليك بالإنصاف.
قال المناوي في “شرح عينية ابن سينا في النفس”: قال الناظم في كتاب “زيارة القبور”: تعلق النفس بالبدن عظيم جدًّا؛ حتى إنها بعد المفارقة تشتاق وتلتفت إلى الأجزاء البدنية المدفونة؛ فإذا زار إنسان قبر آخر وتغاضى عن العلائق الجسمانية والعلائق الطبيعية توجهت نفسه إلى العالم العقلي فلتواجه نفسه نفس الميت ويحصل منهما المقابلة كما في المرآتين، فيرتسم فيها صورة عقلية بطريق الانعكاس، ويحصل لها بذلك كمال. اهـ.
وقد ذكر الغزالي نحو ذلك مع زيادة بسط وتحقيق، فقال: المقصود من زيارة الأنبياء والأولياء والأئمة: الاستمداد من سؤال المغفرة وقضاء الحوائج من أرواحهم، والعبارة عن هذا الإمداد الشفاعة، وهذا يحصل من جهتين: الاستمداد من هذا الجانب، والإمداد من ذلك الجانب. ولزيارة المشاهد أثر عظيم في هذين الركنين:
أما الاستمداد: فبانصراف همة صاحب الحاجة عن أموره العادية باستيلاء ذكر المزور على الخاطر، حتى تصير كلية همته مستغرقة في ذلك، ويقبل بكليته على ذكره وخطوره بباله، وهذه الحالة سبب منبه لروح ذلك الشفيع أو المزور؛ حتى تمد روح المزور الطيبة ذلك الزائر بما يستمد منها، ومن أقبل بكليته وهمته على إنسان في دار الدنيا فإن ذلك الإنسان يحس بإقبال ذلك المقبل عليه؛ لخبره بذلك، فمن لم يكن في هذا العالم فهو أولى بالتنبه، وهو مهيأ لذلك التنبه؛ فإن اطلاع مَن هو خارج عن أحوال العالم على بعض أحوال العالم ممكن؛ كما يطلع من هو في المنام على أحوال من هو في الآخرة: أهو مُثاب أم مُعاقَب؟ فإن النوم صنو الموت وأخوه؛ فبسبب الموت صرنا مستعدين لمعرفة أحوال لم نكن مستعدين في حال اليقظة لها، فكذا من وصل إلى دار الآخرة ومات موتًا حقيقيًّا كان بالاطلاع على أحوال هذا العالم أولى وأحرى، فأما كلية أحوال هذا العالم في جميع الأوقات فلم تكن مندرجة في سلك معرفتهم، كما لم تكن أحوال الماضين حاضرة في معرفتنا في منامنا عند الرؤيا.
ولإيجاد المعارف معينات ومخصصات؛ منها: همة صاحب الحاجة وهي استيلاء ذكر صاحب تلك الروح العزيزة على صاحب الحاجة، وكما تؤثر مشاهدة صورة الحي في خطور ذكره وحضور نفسه بالبال فكذا تؤثر مُشاهدة ذلك الميت ومشاهدة تربته التي هي حجاب قالبه؛ فإن أثر ذلك الميت في النفس عند غيبة قالبه ومشهده ليس كأثره في حال حضوره ومشاهدة قالبه ومشهده.
ومن ظن أنه قادر على أن يحضر في نفسه ذلك الميت عند غيبة مشهده كما يحضره عند مشاهدة مشهده فذلك ظن خطأ؛ فإن للمشاهدة أثرًا بينًا ليس للغيبة مثله، ومن استعان في الغيبة بذلك الميت لم تكن هذه الاستعانة أيضًا جزافًا ولا تخلو من أثر ما؛ كما قال المصطفى عليه الصلاة والسلام: «مَن صلى علي مرة صليت عليه عشرًا» و«من زارني حلت له شفاعتي».
فالتقرب بقالبه الذي هو أخص الخواص به وسيلة تامة متقاضية للشفاعة، والتقرب بولده الذي هو بضعة منه ولو بعد توالد وتناسل، والتقرب بمشهده ومسجده وبلدته وعصاه وسوطه ونعله وعضادته، والتقرب بعادته وسيرته وبما له مناسبة إليه يوجب التقرب إليه ومقتضٍ لشفاعته؛ فإنه لا فرق عند الأنبياء والأولياء في كونهم في دار الدنيا وكونهم في دار الآخرة إلا في طريق المعرفة؛ فإن آلة المعرفة في دار الدنيا: الحواسُّ الظاهرة، وفي العقبى: آلة بها يعرف الغيب؛ إما في صورة مثال، وإما على سبيل التصريح. وأما الأحوال الأخر في التقرب والقرب والشفاعة فلا تتغير.
والركن الأعظم في هذا الباب: الإمداد والاهتمام من جهة ا لمُمِدِّ وإن لم يشعر صاحب الوسيلة بهذا المدد؛ فإنه لو وضع شعر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو سوطه أو عضادته على قبر عاص أو مذنب لنجا ذلك المذنب ببركات تلك الذخيرة من العذاب، وإن كان في دار إنسان أو بلد لا يصيب سكانها بلاء وإن لم يشعر بها صاحب الدار أو ساكن البلد؛ فإن اهتمام النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو في العقبى مصروف إلى ما هو له منسوب، ودفع المكاره والأمراض والعقوبات مفوَّض من الله تعالى إلى الملائكة، وكل ملك حريص على إسعاف ما حرص النبي صلوات الله عليه بهمته إليه عن غيره، كما كان في حال حياته؛ فإن تقرب الملائكة بروحه بعد موته أزيد من تقربهم بها في حال حياته. إلى هنا كلامه انتهى..
ألم يعلموا أن زيارة القبور تارة يُقصَد بها الموعظة بالأموات وهذه تعم جميع القبور والأموات، وتارة يُقصَد بها الاستمدادُ والتبرك بالمَزُور، وهذا يختص بالأنبياء والأولياء والصالحين، ألم يعلموا أن الإنسان يتأثر بتصوراته، وأن نفسه تحت قهر سلطان الوهم؛ فكم من إنسان تحقق أنه سيقتل لا محالة فتصور الموت واقعًا به فمات بسبب ذلك قبل أن يُقتَل.
كذلك إذا زار إنسان مشهد الحسين رضي الله عنه مثلا واعتقد أنه بمكان طاهر بين يدي ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استولى عليه الخشوع والخضوع وامتلأ قلبه إخلاصًا فيدعو الله مخلصًا موقنًا بالإجابة؛ خصوصًا إذا اعتقد أن روح الحسين رضي الله عنه مثلًا تسأل الله إجابة دعاء زائره؛ أليس ذلك سببًا في إجابة الدعاء وقضاء حوائج الزائرين المخلصين! والله هو المؤثِّر، ولا نرى مسلمًا ولو عامِّيًّا يتوهم –فضلًا عن أن يعتقد- أن لله شريكًا من خلقه؛ فمهما اعتقد الزائر من علو درجة المَزُور فلا يعتقد فيه إلا أنه عبد مقرَّب لله يسأل الله كما يسأله الزائر، وأن المَزُورَ أطهرُ منه روحًا وأصفى نفسًا بما أعطاه الله من الكمال الإنساني، وإن كان العوام لا يستطيعون التعبير عما تُكِنُّه صدورُهم من حسن العقيدة وكمال الإيمان] اهـ.
وبهذا كله يتضح أن الاستغاثة والاستمداد من الأنبياء والأولياء والصالحين هي مما قال العلماء بجوازه سلفًا وخلفًا، وأن القول بأن ذلك شرك هو أعظم بدعة ظهرت في الأمة الإسلامية في الأعصر المتأخرة وهي من جنس بدع الخوارج التي يتوسل بها أصحابها إلى تكفير المسلمين والطعن في عقائدهم، على أن تكفير المسلم بذلك لا يستقيم عند العقلاء أصلا فضلا عن أن يدل عليه نقل أو شبهة نقل.
يقول العلامة المحقق الشيخ يوسف الدجوي المالكي عضو هيئة كبار العلماء في الأزهر في “مقالته عن الاستغاثة”: [ولا أدري كيف يُكَفِّرون بالاستغاثة ونحوها؛ فإنّ المستغيث إن كان طالبًا من الله بكرامة هذا الميّت لديه، فالأمر واضح، وإن كان طالبًا من الولي نفسه فإنّما يطلب منه على اعتقاد أنّ الله أعطاه قوّة روحانيّة تشبه قوّة الملائكة فهو يفعل بها بإذن الله، فهل في ذلك تأليه له؟
ولو فرضنا جدلًا أنّنا مخطئون في ذلك، لم يكن فيه شرك ولا كفر، بل نكون كمن طلب من المقعد المعونة معتقدًا أنّه صحيح غير مقعد، مع أنّ عمل الأرواح ومواهب الأنبياء والأولياء ثابتة في الدّلائل القطعيّة..
وصفوة القول أنّنا نقول: هؤلاء المستغيثون يعتقدون أنّ الله أعطى هؤلاء الأولياء مواهب لم يعطها لغيرهم، وذلك جائز لا يمكنهم منعه. وهم يقولون: “إنّهم اعتقدوا فيهم الألوهيّة!” مع أنّ ذلك لا يقول به أحد، إلَّا عند من أساء الظّن بالمسلمين ظلمًا وعنادًا. ولو فرضنا أنّ ذلك مشكوك فيه، فهل يجوز التّكفير والقتل بمجرّد الشّك؟!
فالاستغاثة مبنيّة عندنا على أنّ الأنبياء والأولياء أحياءٌ في قبورهم كالشّهداءِ، بل أعلى من الشّهداء، ويمكنهم أن يدعوا الله تعالى للمستغيث بهم، بل يمكنهم أن يعاونوه بأنفسهم كما تعاون الملائكة بني آدم، وللأرواح تصرّف كبير في البرزخ. وعلى ذلك دلائل كثيرة أطنب فيها ابن القيّم، وهو من أئمّة هؤلاء، وأثبت ابن تيميّة سماع الأموات وردّهم السّلام في فتاويه وغيرها، مستندًا إلى الأحاديث الصّحيحة في ذلك، وذكر سماع سعيد بن المسيب الأذان من قبره صلى الله عليه وآله وسلم أيّام الحرّة في كتبه، فإذا استغاث بهم كان كمن يستغيث بالحي سواء بسواءٍ؛ لأنّهم عندنا أحياءٌ، بل أعظم نفوذًا، وأوسع تصرّفًا من الأحياءِ.
ولو تنزّلنا غاية التنزّل، وفرضنا أنّنا مخطئون في ذلك، لم يكن هناك وجه للتّكفير، وإنّما يقال للمستغيثين: إنّكم أخطأْتم في ذلك، فإنّهم ليسوا أحياء ولا قادرين على ما سبق لنا] اهـ.
وقد صنف في مشروعية التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم واستحبابه -حيًّا ومنتقلًا- أعدادٌ غفيرة من العلماء سلفًا وخلفًا، والاستغاثة من جملة التوسل كما سبق تقريره عن التقي السبكي والتقي الحصني والسمهودي والقسطلاني وابن حجر وغيرهم، كما ألف جماعة في خصوص مشروعية الاستغاثة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى، منهم:
– الإمام الحافظ المنذرى [ت656هـ] صاحب “الترغيب والترهيب” في رسالته “زوال الظما، فى ذكر من استغاث برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الشدة والعمى” ذكرها صاحب “إيضاح المكنون في الذيل على كشف الظنون” (1/614، ط. دار إحياء التراث العربي).
– والإمام أبو عبد الله محمد بن موسى بن النعمان المراكشي [ت683هـ] في كتابه “مصباح الظلام، في المستغيثين بخير الأنام، في اليقظة والمنام”، وهو مطبوع.
– والعلامة نور الدين علي بن إبراهيم الحلبي الشافعي [ت1044هـ] في كتابه “بغية ذوي الأحلام، بأخبار مَن فُرِّجَ كربُه برؤية المصطفى عليه الصلاة والسلام في المنام” مخطوطة في دار الكتب المصرية تحت رقم: 3/36 (3335)، (63 مجاميع).
– والعلامة أبو السيادة عفيف الدين الميرغني الحسيني الحنفي المكي [ت1207هـ] في رسالته “تحريض الأنبياء، على الاستغاثة بالأنبياء والأولياء”، وهي مخطوطة بمكتبة رضا، برامبور بالهند، محفوظة برقم: 2/425 (737).
– والشيخ العلامة محمد عابد السندي [ت1257هـ] له رسالة في “جواز الاستغاثة والتوسل”، وهي مخطوطة في خزانة الرباط، أول المجموعة 1143 كتاني.
– والعلّامة يوسف النبهاني الشافعي الأزهري [ت1350هـ] في كتابه الماتع الجامع “شواهد الحق، في الاستغاثة بسيد الخلق، صلى الله عليه وآله وسلم”، وقد عقد لذلك فصلًا في كتابه “حجة الله على العالمين، في معجزات سيد المرسلين، صلى الله عليه وآله وسلم”. وكلاهما مطبوع. وقد تم طبع “شواهد الحق” بالمطبعة الميمنية سنة 1323هـ، وقرَّظه وامتدحه كبار علماء الأزهر في ذلك الوقت: كالشيخ العلّامة السيد علي الببلاوي المالكي نقيب الأشراف وشيخ الأزهر الأسبق، والشيخ العلّامة عبد القادر الرافعي الحنفي مفتي الديار المصرية الأسبق، والشيخ العلّامة عبد الرحمن الشربيني شيخ الأزهر وقتَها، والشيخ العلّامة بكري الصدفي الحنفي مفتي الديار المصرية وقتَها، والشيخ العلّامة محدِّث المغرب محمد عبد الحي الكتاني الحسني، والعلّامة السيد أحمد بك الحسيني الشافعي، والشيخ العلّامة سليمان العبد عضو هيئة كبار العلماء، والعلامة أحمد حسنين البولاقي الشافعي، والشيخ العلّامة أحمد البسيوني شيخ السادة الحنابلة بالأزهر الشريف، وغيرهم من أهل العلم بالأزهر الشريف.
 ثانيًا: دعوى أن نية السفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين مثل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وغيره بدعة، وأن هذه زيارة غير شرعية، كلام مبتدع ليس عليه دليل صحيح، ولا يؤيده معقول صريح، بل هو مذهب خالف به صاحبه ما تتابعت عليه الأمة سلفًا وخلفًا من تعظيم النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم وأن حرمته في حياته البرزخية كحرمته في حياته الدنيوية:
ذلك أن زيارة القبور مشروعة باتفاق الأئمة؛ فهي مستحبة باتفاق العلماء، وإنما كرهها من كرهها للنساء لرقة قلوبهن وعدم قدرتهن على الصبر، ودليل الاستحباب قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «فَزُورُوا الْقُبُورَ؛ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْمَوْتَ» رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وفي رواية غيره: «زُورُوا الْقُبُورَ؛ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمُ الآخِرَةَ»، ويُستَثنَى من كراهة زيارة النساء عند الجمهور زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ فإنه يُندَب لهن زيارتُه، وكذا قبور الأنبياء غيره عليهم الصلاة والسلام؛ لعموم الأدلة في طلب زيارته صلى الله عليه وآله وسلم.
وإذا كانت إقامة زيارة القبور مشروعة فإن شد الرحال إليها بالسفر إلى أماكنها مشروع أيضًا؛ لأن وسيلة المشروع مشروعة، وشد الرحال كناية عن السفر والانتقال، والسفر في نفسه ليس عبادة ولا عملًا مقصودًا لذاته في أداء العبادات، وقد اتفق علماء الأصول على أن الوسائل لها أحكام المقاصد؛ فإذا كان الحج واجبًا فشد الرحال للحج واجب، وإن كانت زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقبور الصالحين والأقارب وعموم المسلمين مستحبة فيتعين أن يكون شد الرحال لزيارتهم مستحبًّا، وإلا فكيف يُستَحبُّ الفعل وتحرُم وسيلتُه!
وأمّا قوله صلى الله عليه وآله وسلم -المرويِّ في الصحيحين وغيرهما- «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: مَسْجِدِي هَذَا، وَالمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَالمَسْجِدِ الأَقْصَى» فخاصٌّ بالمساجد؛ فلا تُشَدُّ الرحال إلا لثلاثة منها، بدليل جواز شد الرحال لطلب العلم وللتجارة.
وقد اتفق العلماء على هذا الفهم، حتى عدُّوا ما نُقِل عن ابن تيمية من تحريم شد الرحال لزيارة قبر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شاذًّا مخالفًا للإجماع، قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في “فتح الباري”: “وَالْحَاصِلِ أَنَّهُمْ أَلْزَمُوا ابْن تَيْمِيَةَ بِتَحْرِيمِ شَدِّ الرَّحْلِ إِلَى زِيَارَةِ قَبْرِ سَيِّدِنَا رَسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَأَنْكَرْنَا صُورَة ذَلِكَ.. وَهِيَ مِنْ أَبْشَعِ الْمَسَائِلِ الْمَنْقُولَةِ عَنْ ابْن تَيْمِيَّةَ”، ثم قال: “قال بعض المُحَقِّقِينَ: قوله “إِلَّا إِلَى ثَلاثَةِ مَسَاجِدَ” الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ مَحْذُوف، فَإِمَّا أَنْ يُقَدِّرَ عَامًّا فَيَصِيرَ: لا تُشَدّ الرِّحَال إِلَى مَكَانٍ فِي أَيِّ أَمْرٍ كَانَ إِلَّا إِلَى الثَّلاثَةِ، أَوْ أَخَصّ مِنْ ذَلِكَ: لا سَبِيلَ إِلَى الأَوَّلِ؛ لإِفْضَائِهِ إِلَى سَدِّ بَابِ السَّفَرِ لِلتِّجَارَةِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَطَلَبِ الْعِلْمِ وَغَيْرهَا، فَتَعَيَّنَ الثَّانِي، وَالأَوْلَى أَنْ يُقَدَّرَ مَا هُوَ أَكْثَرُ مُنَاسَبَة وَهُوَ: لا تُشَدّ الرِّحَال إِلَى مَسْجِدٍ لِلصَّلاةِ فِيهِ إِلَّا إِلَى الثَّلاثَةِ، فَيَبْطُلُ بِذَلِكَ قَوْل مَنْ مَنَعَ شَدَّ الرِّحَال إِلَى زِيَارَةِ الْقَبْرِ الشَّرِيفِ وَغَيْره مِنْ قُبُورِ الصَّالِحِينَ والله أَعْلَمُ”.
وقال الشيخ سليمان بن منصور المشهور بـ”الجمل” في حاشيته المسمّاة “فتوحات الوهاب بتوضيح شرح منهج الطلاب”: “«لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ» أي: للصلاة فيها، فلا ينافي شد الرحال لغيرها” إلى أن قال: “قال النووي: ومعناه: لا فضيلة في شد الرحال إلى مسجد غير هذه المساجد الثلاثة، ونقله عن جمهور العلماء، وقال العراقي: من أحسن محامل الحديث أن المراد منه حكم المساجد فقط؛ فإنه لا تُشَدُّ الرحال إلى مسجد من المساجد غير هذه الثلاثة، وأما قصد غير المساجد: من الرحلة لطلب العلم، وزيارة الصالحين والإخوان، والتجارة، والتَّنَزُّه، ونحو ذلك، فليس داخلًا فيه، وقد ورد ذلك مصرَّحًا به في رواية الإمام أحمد وابن أبي شيبة بسندٍ حسنٍ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعًا: «لا يَنْبَغِى لِلْمَطِىِّ أَنْ تُشَدَّ رِحَالُهُ إِلَى مَسْجِدٍ يَنْبَغِى فِيهِ الصَّلَاةُ غَيْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ والْمَسْجِدِ الأَقْصَى وَمَسْجِدِى هَذَا»، وفي رواية: «لا يَنْبَغِى لِلْمَطِىِّ أَنْ تُشَدَّ رِحَالُهُ إِلَى مَسْجِدٍ يَنْبَغِى فِيهِ الصَّلَاةُ غَيْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ والْمَسْجِدِ الأَقْصَى وَمَسْجِدِى هَذَا»،
قال السبكي: وليس في الأرض بقعة فيها فضل لذاتها حتى تُشَدَّ الرحالُ إليها لذلك الفضل غير البلاد الثلاثة، قال: ومرادي بالفضل ما شهد الشرع باعتباره ورتب عليه حكمًا شرعيًّا، وأما غيرها من البلاد فلا تُشَدُّ إليها لذاتها، بل لزيارة أو علم أو نحو ذلك من المندوبات أو المباحات، وقد التبس ذلك على بعضهم؛ فزعم أن شد الرحال لمن في غير الثلاثة كسيدي أحمد البدوي ونحوه داخل في المنع، وهو خطأ؛ لأن الاستثناء إنما يكون من جنس المستَثنَى منه، فمعنى الحديث: لا تشد الرحال إلى مسجد من المساجد أو إلى مكان من الأمكنة لأجل ذلك المكان إلا إلى الثلاثة المذكورة، وشد الرحال لزيارة أو طلب علم ليس إلى المكان بل لمن في المكان، فليُفهَم” اهـ.
وعليه فإن شد الرحال لزيارة قبور الأنبياء والصالحين والأقارب مستحب؛ لأنه الوسيلة الوحيدة لتحصيل المستحب وهو الزيارة، والقول بأنه حرام قول باطل لا يُعوَّل عليه ولا يُلتفَتُ إليه.
 ثالثًا: أما عن الحلف وتأكيد الكلام والترجي بغير الله:
فقد جاء الإسلام وأهل الجاهلية يحلفون بآلهتهم على جهة العبادة والتعظيم لها مضاهـاة لله سبحانه وتعالى عما يشركون كما قال عز وجل واصفًا لحالهم: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ﴾ (البقرة 165)، فنهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك حماية لجنـاب التوحيد فقـال: «مَنْ حَلَفَ فَقَالَ فِي حَلِفِهِ “وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى” فَلْيَقُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا الله» متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ الله فَقَدْ كَفَرَ أَوْ أَشْرَكَ» رواه الترمذي وحسنه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما وصححه ابن حبان والحاكم، أي: قال قولًا شابه به المشركين لا أنه خرج بذلك من الملة –والعياذ بالله– فإن العلماء متفقون على أن الحالف بغير الله لا يكون كافرًا حتى يُعَظِّم ما يحلف به كتعظيم الله تعالى، وكُفْرُه حينئذٍ من جهة هذا التعظيم لا من جهة الحلف نفسه.
وكذلك نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن التشبه بأهل الجاهلية في حلفهم بآبائهم افتخارًا بهم وتقديسًا لهم وتقديمًا لأنسابهم على أخوة الإسلام جاعلين ولاءهم وعداءهم على ذلك – فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «أَلَا إِنَّ الله يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، فَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِالله وَإِلَّا فَلْيَصْمُتْ» متفق عليه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وعلة هذا النهي قد بَيِّنها صلى الله عليه وآله وسلم بقوله في الحديث الآخر: «لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ يَفْتَخِرُونَ بِآبَائِهِمُ الَّذِينَ مَاتُوا إِنَّمَا هُمْ فَحْمُ جَهَنَّمَ أَوْ لَيَكُونُنَّ أَهْوَنَ عَلَى الله مِنَ الْجُعَلِ الَّذِي يُدَهْدِهُ الْخِرَاءَ بِأَنْفِهِ، إِنَّ الله قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ، إِنَّمَا هُوَ مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ، النَّـاسُ كُلُّهُـمْ بَنُـو آدَمَ وَآدَمُ خُلِقَ مِنْ تُرَابٍ» رواه أبو داود والترمذي وحسنه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وكما قال تعالى: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا﴾ (البقرة 200) قال المفسرون: كان أهل الجاهلية يقفون في الموسم فيقول الرجل منهم: كان أبي يُطْعِم ويحمل الحَمَالات، ليس لهم ذكر غير فعال آبائهم.
أما الحلف بما هو مُعَظَّم في الشرع كالنبي صلى الله عليه وآله وسلم والإسلام والكعبة فلا مشابهة فيه لحلف المشركين بوجه من الوجوه، وإنما مَنَعَه مَنْ مَنَعَه مِنَ العلماء أخذًا بظاهر عموم النهي عن الحلف بغيـر الله، وأجازه من أجازه –كالإمام أحمد في إجازته الحلف بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وتعليله ذلك بأنه صلى الله عليه وآله وسلم أحد ركني الشهادة التي لا تتم إلا به–؛ لأنه لا وجه فيه للمضاهاة بالله تعالى بل تعظيمه بتعظيم الله له، وظاهر عموم النهي عن الحلف بغير الله تعالى غير مراد قطعًا لإجماعهم على جواز الحلف بصفات الله تعالى، فهو عموم أريد به الخصوص.
قال ابن المنذر: “اختلف أهل العلم في معنى النهي عن الحلف بغير الله، فقالت طائفة: هو خاص بالأيمان التي كان أهل الجاهلية يحلفون بها تعظيمًا لغير الله تعالى كاللات والعزى والآباء فهذه يأثم الحالف بها ولا كفارة فيها، وأمّا ما كان يؤول إلى تعظيم الله كقوله: وحق النبي والإسلام والحج والعمرة والهدي والصدقة والعتق ونحوها مما يراد به تعظيم الله والقربة إليه فليس داخلًا في النهي، وممن قال بذلك أبو عبيد وطائفة ممن لقيناه، واحتجوا بما جاء عن الصحابة من إيجابهم على الحالف بالعتق والهدي والصدقة ما أوجبوه مع كونهم رأوا النهي المذكور، فدل على أن ذلك عندهم ليس على عمومه؛ إذ لو كان عامًّا لنَهَوْا عن ذلك ولم يوجبوا فيه شيئًا” اهـ.
أما عن الترجي أو تأكيد الكلام بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم أو بغيره مما لا يُقْصَد به حقيقةُ الحلف فغير داخل في النهي أصلًا، بل هو أمر جائز لا حرج فيه حيث ورد في كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكلام الصحابة الكرام، فمن ذلك:
– ما رواه مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله أَيُّ الصَّدَقَةِ أَعْظَمُ أَجْرًا؟ فَقَالَ صلى الله عليه وآله وسلم: «أَمَا وَأَبِيكَ لَتُنَبَّأَنَّهْ؛ أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَخْشَى الْفَقْرَ وَتَأْمُلُ الْبَقَاءَ..» إلخ.
– وروى في صحيحه أيضًا عن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه في حديث الرجل النجدي الذي سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الإسلام.. وفي آخره: فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أَفْلَحَ وَأَبِيهِ إِنْ صَدَقَ» أَوْ «دَخَلَ الْجَنَّةَ وَأَبِيهِ إِنْ صَدَقَ».
– وروى ابن ماجه في سننه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله نَبِّئْنِى بِأَحَقِّ النَّاسِ مِنِّى بِحُسْنِ الصُّحْبَةِ، فَقَالَ: «نَعَمْ وَأَبِيكَ لَتُنَبَّأَنَّ؛ أُمُّكَ».. إلخ.
– وروى الإمام أحمد في مسنده عَنْ أَبِى الْعُشَرَاءِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله أَمَا تَكُونُ الذَّكَاةُ إِلَّا فِي الْحَلْقِ أَوِ اللَّبَّةِ؟ قَالَ: «وَأَبِيكَ لَوْ طَعَنْتَ فِي فَخِذِهَا لأَجْزَأَكَ».
– وروى في مسنده أيضًا أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم أُتِيَ بِطَعَامٍ مِنْ خُبْزٍ وَلَحْمٍ فَقَالَ: «نَاوِلْنِي الذِّرَاعَ» فَنُووِلَ ذِرَاعًا فَأَكَلَهَا، ثُمَّ قَالَ: «نَاوِلْنِي الذِّرَاعَ»، فَنُووِلَ ذِرَاعًا فَأَكَلَهَا، ثُمَّ قَالَ: «نَاوِلْنِي الذِّرَاعَ»، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله إِنَّمَا هُمَا ذِرَاعَانِ ! فَقَالَ صلى الله عليه وآله وسلم: «وَأَبِيكَ لَوْ سَكَتَّ مَا زِلْتُ أُنَاوَلُ مِنْهَا ذِرَاعًا مَا دَعَوْتُ بِهِ».
– وروى الإمام مالك في الموطأ في قصة الأَقْطَعِ الَّذِي سَرَقَ عِقْدًا لأَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ رَضِيَ الله عَنْهَا أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال له: «وَأَبِيكَ مَا لَيْلُكَ بِلَيْلِ سَارِقٍ».
– وروى الشيخان أن امرأة أبي بكر الصديق رضي الله عنهما قالت له: «لَا وَقُرَّةِ عَيْنِي لَهِيَ الآنَ أَكْثَرُ مِنْهَا قَبْلَ ذَلِكَ بِثَلَاثِ مَرَّاتٍ» تعني طعام أضيافه.
قال العلّامة ابن مفلح الحنبلي في “الفروع” (3/177، ط. مؤسسة الرسالة): [وفيه القسم بمخلوق، قيل: أرادت بـ”قُرَّة عينها” النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم فأقسمت به] اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر في “فتح الباري” (1/171، ط. دار المعرفة): [أقسمَتْ بالشيء الذي يُقِرُّ عينها] اهـ، ونقل عن الإمام الداودي (6/599) أنها أرادت بقُرَّة عَيْنها: النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم.
– وروى الإمام أحمد في “فضائل الصحابة” وفي “العلل ومعرفة الرجال” عن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما قال: “ما سألت عليا شيئا قط بحق جعفر إلا أعطانيه”، ورواه الطبراني في “المعجم الكبير” بلفظ: “كنتُ أسألُ عليًّا رضي اللهُ عنه الشيءَ فيأْبَى علَيَّ، فأقول: بِحَقِّ جَعْفَرٍ، فإذا قلتُ “بِحَقِّ جَعْفَرٍ” أعْطَانِي”.
قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم: “ليس هذا حلفًا، وإنما هو كلمة جرت عادة العرب أن تدخلها في كلامها غير قاصدة بها حقيقة الحلف، والنهي إنما ورد فيمن قصد حقيقة الحلف لما فيه من إعظام المحلوف به ومضاهاته بالله سبحانه وتعالى، فهذا هو الجواب المرضي” اهـ.
وقال الإمام البيضاوي: “هذا اللفظ من جملة ما يزاد في الكلام لمجرد التقرير والتأكيد ولا يراد به القسم، كما تزاد صيغة النداء لمجرد الاختصاص دون القصد إلى النداء” اهـ من فتح الباري لابن حجر.

وبناءً على ذلك فإن الترجي أو تأكيد الكلام بسيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو آل البيت أو غير ذلك كما جاء بالسؤال مما لا يُقصد به حقيقة الحلف هو أمر مشروع لا حرج على فاعله لوروده في كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكلام الصحابة وجريان عادة الناس عليه بما لا يخالف الشرع الشريف، وليس هو حرامًا ولا شركًا، ولا ينبغي للمسلم أن يتقول على الله بغير علم حيث يقول تعالى: ﴿وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ﴾ [النحل: 116]، ولا يجـوز للعاقل أن يتهم إخـوانه بالكفر والشرك فيدخـل بذلك في وعيد قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِذَا كَفَّرَ الرَّجُلُ أَخَاهُ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا» رواه مسلم من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. والله سبحانه وتعالى أعلم

رابط
LihatTutupKomentar