Tawasul dan Kebodohan Wahabi Salafi (1)

Tawasul dan Kebodohan Wahabi Salafi (1) عقيدة مقلدي محمد بن عبد الوهاب في الله سبحانه وتعالى التجسيم، وهو مقلد فيه أحمد بن تيمية، وهذا مقلد فيه الكرامية ومجسمة الحنابلة وهم مع مقلدهم، ومقلده لا يصرحون به بل يبرأون منه. وقد صرح به ابن تيمية مرة على منبر دمشق الشام فقال: ينزل كنزولي هذا، ونزل درجة من المنبر، وممن شاهد هذه القضية منه الفقيه الرحالة ابن بطوطة المغربي، ولكنهم يدندنون حوله ويلوكونه دائما بهذه الألفاظ: في السماء، فوق سبع سماواته، على عرشه، استوى بذاته، استوى حقيقة، على عرشه بائن من خلقه
Tawasul dan Kebodohan Wahabi Salafi (1)

بسم الله الرحمن الرحيم
التوسل بالنبي وجهلة الوهابيين


الحمد لله الهادي عباده إلى الطريق الأقوم، المتفضل عليهم بنعمة الإسلام ودقائق الحكم، الناهي لهم عن التنازع في كتابه المحكم، والصلاة والسلام على أشرف مبعوث إلى جميع الأمم، سيدنا محمد القائل إن أمتي لا تجتمع على ضلالة فإذا رأيتم الاختلاف فعليكم بالسواد الأعظم وعلى آله وأصحابه نجوم الاهتداء لكل فصيح وأعجم. فهذه خلاصة علمية في عقائد محمد بن عبد الوهاب ومقلديه جمعت أكثر درها المنقول والمعقول من تحقيق علماء الإسلام الأعلام، وشيدت صرحها بتاريخ الإسلام، ودعمتها بكثير من آيات الكتاب الحكيم وسنته عليه الصلاة والسلام، فجاءت بحمد الله حصنا منيعا لا يرام. وقد رد بعض أتباع الأئمة الأربعة عليه وعلى مقلديه بتآليف كثيرة جيدة، وممن رد عليه من الحنابلة أخوه سليمان بن عبد الوهاب، ومن حنابلة الشام آل الشطي والشيخ عبد الله القدومي النابلسي في رحلته، وكلها مطبوعة، في ناحيتين: زيارة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، والتوسل به وبالصالحين من أمته، وقالوا: إنه مع مقلديه من الخوارج. وممن نص على هذا العلامة المحقق السيد محمد أمين بن عابدين في حاشيته رد المختار على الدار المختار في باب: البغاة والشيخ الصاوي المصري في حاشيته على الجلالين، لتكفيره أهل (لا إله إلا الله محمد رسول الله) برأيه، ولا شك أن التكفير سمة الخوارج وكل المبتدعة الذين يكفرون مخالفي رأيهم من أهل القبلة، ولا تفيد هذه الخلاصة من مرق إلى الجهة الأخرى، لأن العلماء قالوا إن البدعة إذا رسخت في قلب لا يرجع صاحبها عنها ولو رأى ألف دليل واضح وضوح الشمس يبطلها إلا إذا أدركته عناية الله، وإنما هي عاصمة إن شاء الله تعالى من لم يدخل في بدعهم. وتنحصر أمهات عقائد محمد بن عبد الوهاب ومقلديه في أربع: تشبيه الله سبحانه وتعالى بخلقه، وتوحيد الألوهية والربوبية، وعدم توقيرهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)،

ص 2

وتكفير المسلمين، وهو مقلد فيها كلها أحمد بن تيمية، وهذا مقلد في الأولى الكرامية ومجسمة الحنابلة، ومقتد بهما وبالحروزبين في الرابعة، ومخترع توحيد الألوهية والربوبية الذي تفرع عنه عدم توقيرهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتكفير المسلمين أيضا. وثقة نقل دين الإسلام محصورة عندهم فيه وفي تلميذه ابن القيم وفي محمد ابن عبد الوهاب، فلا يثقون بأي عالم من علماء المسلمين ولا يقيمون له وزنا إلا إذا وجدوا في كلامه شبهة تؤيد هواهم، فدين الإسلام الواسع محصور علماؤه في الثلاثة، وأمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) المرحومة المنتشرة منذ توسع الفتح الإسلامي في خلافة ذي النورين عثمان رضي الله تعالى عنه إلى عصرنا هذا في أكثر الربع العامر وهي أكثر الأمم جميعا أحبارا ومؤلفين، وهي أيضا ثلثا أهل الجنة كما في الحديث الصحيح محصورة فيهم وفي علمائهم الثلاثة، وكل من له إلمام بالعلم وطالع تآليف ابن القيم ورسائل ابن عبد الوهاب مجردا نفسه عن العاطفة متحليا بالإنصاف يجدهما مقلدين ابن تيمية في فهمه كله، مؤلهين هواه، ممتازا أولهما: بالمدافعة عن شواذ شيخه مدافعة معتوه، وما أجاد فيه الكتابة من الأبحاث العلمية أخذه من تحقيق من سبقه من علماء المسلمين وتشبع به ولم يعزه إلى محققيه (كما هي أمانة نقل العلم عن العلماء). والقارئ البسيط يظن تلك الإجادة منه، وإنما هو جماعة مطلع مقلد في جل الفروع الإمام أحمد بن حنبل رضي الله تعالى عنه، وفي بعضها وفي أصول الدين أحمد بن تيمية متعصب لهما تعصبا جنونيا. وابن عبد الوهاب نشأ في محيط عوام فانتحل شواذ ابن تيمية على ما فيها من تضارب وتخبط والتهمها فصار بها إماما مجتهدا مجددا معصوما فهمه وكلامه عن الخطأ، مؤمنا موحدا كل من قلده، جهميا مشركا كل من خالف هواه، فيخرج بنتيجة واحدة وهي أن علم أصول الدين على غزارة مادته وكثرة مباحثه وبعض الفروع محصور في فهم أحمد بن تيمية، وفهمه معصوم من الخطأ، وكلامه عندهم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وعلماء الإسلام الأولون والآخرون على كثرتهم ممثلون في شخصه، وحيث صار إماما قدوة للمفتونين به مع كونه من الخلف توفي سنة ثمان وعشرين وسبعمائة. فإني سأنقل بحول الله تعالى وقوته كلامه في الأمهات الأربع من كتبه ورسائله ليراه الألباء فيتحققوا شذوذه عن السواد الأعظم، ثم أبطله مفصلا بالبراهين، وسيأتي شرح حال كل من الثلاثة.

ص 3

حديث أخرجه الترمذي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ورواه الإمام أحمد والطبراني في الكبير وابن أبي خيثمة في تاريخه عن أبي بصرة الغفاري، رفعه في حديث سألت ربي أن لا تجتمع أمتي على ضلالة فأعطانيها والطبراني وحده وابن أبي عاصم في السنة عن مالك الأشعري رفعه أن الله أجاركم من ثلاث خلال أن لا يدعو عليكم نبيكم فتهلكوا جميعا، وأن لا يظهر أهل الباطل على أهل الحق، وأن لا تجتمعوا على ضلالة ورواه أبو نعيم والحاكم وابن منده ومن طريقه الضياء المقدسي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما رفعه: أن الله لا يجمع هذه الأمة على ضلالة أبدا، وأن يد الله مع الجماعة فاتبعوا السواد الأعظم فإن من شذ في النار ورواه عبد بن حميد وابن ماجة عن أنس رفعه إن أمتي لا تجتمع على ضلالة فإذا رأيتم الاختلاف فعليكم بالسواد الأعظم ، ورواه الحاكم عن ابن عباس رفعه بلفظ لا يجمع الله هذه الأمة على ضلالة ويد الله مع الجماعة، والجملة الثانية عند الترمذي وابن أبي عاصم عن ابن مسعود موقوفا في حديث عليكم بالجماعة فإن الله لا يجمع هذه الأمة على ضلالة، زاد غيره وإياكم والتلون في دين الله . قال المحدث العجلوني في كشف الخفا والإلباس: والحديث مشهور المنن وله أسانيد كثيرة وشواهد عديدة في المرفوع وغيره، فمن الأول أنتم شهداء الله في الأرض ، ومن الثاني قول ابن مسعود رضي الله تعالى عنه إذا سئل أحدكم فلينظر في كتاب الله فإن لم يجده ففي سنة رسول الله فإن لم يجده فيها فلينظر فيما اجتمع عليه المسلمون، وإلا فليجتهد إ ه‍. وإني أبتهل إلى الله تعالى أن يحفظ علي وعلى جميع المسلمين الإيمان إلى يوم ألقاه (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك. يا الله).

ص 4




الفصل الأول::
في التجسيم



عقيدة مقلدي محمد بن عبد الوهاب في الله سبحانه وتعالى التجسيم، وهو مقلد فيه أحمد بن تيمية، وهذا مقلد فيه الكرامية ومجسمة الحنابلة وهم مع مقلدهم، ومقلده لا يصرحون به بل يبرأون منه. وقد صرح به ابن تيمية مرة على منبر دمشق الشام فقال: ينزل كنزولي هذا، ونزل درجة من المنبر، وممن شاهد هذه القضية منه الفقيه الرحالة ابن بطوطة المغربي، ولكنهم يدندنون حوله ويلوكونه دائما بهذه الألفاظ: في السماء، فوق سبع سماواته، على عرشه، استوى بذاته، استوى حقيقة، على عرشه بائن من خلقه ، فلو استظهروا بجميع أهل الأرض على إثبات أي لفظ من هذه الألفاظ بإسناد صحيح عن أي واحد من أتباع التابعين لم يستطيعوا ذلك فضلا عن إثباته عن التابعين، فضلا عن إثباته عن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، فضلا عن إثباته عن الذي لا ينطق عن الهوى (صلى الله عليه وآله وسلم)، وحيث صارت لهم مادة تؤيدهم عليه فقد صرحوا به طبقا لسلفهم الكرامية ومجسمة الحنابلة، فيما طبعوه من كتبهم ك‍ كتاب السنة المنسوب لعبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل وكتاب النقض علي بشر المريسي المنسوب لعثمان بن سعيد الدارمي و طبقات ابن أبي يعلى ، وكتاب السنة جزء صغير مجزأ إلى ثلاثة أجزاء صغار، عنوانه على الأول: كتاب السنة للإمام أحمد بن حنبل، عني بتصحيحه والإشراف على طبعه لجنة من العلماء تحت رئاسة الشيخ عبد الله بن حسن بن حسين آل الشيخ، أمر بطبعه على نفقته وجعله وقفا لله تعالى الملك عبد العزيز آل سعود بالمطبعة السلفية بمكة المكرمة لصاحبيها عبد الفتاح قتلان ومحمد صالح تصيف سنة 1349 ه‍، وعنوانه على الثاني كتاب السنة تأليف عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل، وأهمل الثالث من العنوان.

ص 5

رد العلامة شهاب الدين أحمد بن يحيى الحلبي على ابن تيمية في الجهة ذكر التاج السبكي في ترجمة العلامة شهاب الدين أحمد بن يحيى بن جبريل الكلابي الحلبي المتوفى سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة رسالة له نفيسة في الرد على ابن تيمية في مسألة الجهة، وساقها كلها = وهي في نحو ثلاثين صفحة مقدمته في نحو ست صفحات اقتطفت منها ما يأتي: قال: (فأقول) ادعى أولا أنه يقول بما قاله الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار رضي الله تعالى عنهم، ثم أنه قال ما لم يقله الله تعالى ولا رسوله ولا السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ولا شيئا منه. فأما الكتاب والسنة فسنبين مخالفته لهما، وأما السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، فذكره لهم في هذا الموضع استعارة للتهويل وإلا فهو لم يورد من أقولهم كلمة واحدة، لا نفيا ولا إثباتا، وإذا تصفحت كلامه عرفت ذلك، اللهم إلا أن يكون مراده بالسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار مشايخ عقيدته دون الصحابة. وأخذ بعد هذه الدعوى في مدحه (صلى الله عليه وآله وسلم) وفي مدح دينه وإن أصحابه أعلم الناس بذلك، والأمر كما قاله وفوق ما قاله، وكيف المدائح تستوفي مناقبه، ولكن كلامه كما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: كلمة حق أريد بها باطل. ثم أخذ بعد ذلك في ذم الأئمة وأعلام الأمة، حيث اعترفوا بالعجز عن إدراكه سبحانه وتعالى، مع أن سيد الرسل (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وقال الصديق رضي الله تعالى عنه: العجز عن درك الإدراك إدراك، وتجاسر المدعي على دعوى المعرفة وإن ابن الحيض قد عرف القديم على ما هو عليه ولا غرور ولا جهل أعظم ممن يدعي ذلك، فنعوذ بالله تعالى من الخذلان. ثم أخذ

ص 6

بعد ذلك في نسبة مذهب جمهور أمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أنه مذهب فراخ الفلاسفة وأتباع اليونان واليهود، ستكتب شهادتهم ويسألون. ثم قال كتاب الله تعالى من أوله إلى آخره وسنة رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) من أولها إلى آخرها، ثم عامة كلام الصحابة والتابعين، ثم كلام سائر الأئمة، مملوء بما هو إما نص وإما ظاهر في الله تعالى، أنه فوق كل شيء وعلى كل شيء وأنه فوق العرش وأنه فوق السماء. إبطال زعم ابن تيمية: أن الله فوق العرش حقيقة وقال في أثناء كلامه وأواخر ما زعمه: أنه فوق العرش حقيقة، وقاله في موضع آخر عن السلف فليت شعري أين هذا في كتاب الله تعالى على هذه الصورة التي نقلها عن كتاب ربه وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم)؟، وهل في كتاب الله تعالى كلمة مما قاله حتى يقول إنه فيه نص، والنص هو الذي لا يحتمل التأويل ألبتة؟ وهذا مراده، فإنه جعله غير الظاهر لعطفه له عليه وأي آية في كتاب الله تعالى نص بهذا الاعتبار؟، فأول ما استدل به قوله تعالى إليه يصعد الكلم الطيب ، فليت شعري أي نص في الآية أو ظاهر على أن الله تعالى في السماء أو على العرش؟، ثم نهاية ما يتمسك به أنه يدل على علو يفهم من الصعود، وهيهات زل حمار العلم في الطين، فإن الصعود في الكلام كيف يكون حقيقة، مع أن المفهوم في الحقائق أن الصعود من صفات الأجسام؟، فليس المراد إلا القبول، ومع هذا لا حد ولا مكان. ثم أفاض العلامة المذكور في نقض ما احتج به ابن تيمية من المتشابه، وزعم أنه نص في أن الله تعالى فوق العرش حقيقة، وفي السماء، وعلى السماء، في نحو إحدى عشرة صفحة، ثم قال: فنقول له ما تقول فيما ورد من ذكر العيون بصفة الجمع وذكر

ص 7

الجنب وذكر الساق الواحد وذكر الأيدي؟، فإن أخذنا بظاهر هذا يلزمنا إثبات شخص له وجه واحد عليه عيون كثيرة وله جنب واحد عليه أيد كثيرة، وله ساق واحد وأي شخص يكون في الدنيا أبشع من هذا؟ وإن تصرفت في هذا بجمع وتفريق بالتأويل فلم لا ذكره الله تعالى ورسوله وسلف الأمة؟ وقوله تعالى في الكتاب العزيز الله نور السماوات والأرض ، فكل عالم يعلم أن النور الذي على الحيطان والسقوف وفي الطرق والحشوش، ليس هو الله تعالى ولا قالت المجوس بذلك. فإن قلت بأنه هادي السماوات والأرض ومنورهما، فلم لا قاله الله تعالى ولا رسوله ولا سلف الأمة؟. ثم أفاض معه أيضا في الآيات والأحاديث المتشابهة التي تمسك بها على مدعاه، ثم قال له: هل تأمن من المجسم أن يقول لك ظواهر هذه كثيرة تعدت الحصر أضعاف أحاديث الجهة؟، فإن كان الأمر كما يقولون في نفي الجسمية مع أنه لم يأت في شيء من هذه ما بين خلاف ظواهرها لا عن الله تعالى ولا عن رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا عن سلف الأمة، فحينئذ يكيل لك المجسم بصاعك ويقول لك لو كان الأمر كما قلت لكان ترك الناس بلا كتاب ولا سنة أهدى لهم. وإن قلت: إن العمومات قد بينت خلاف ظواهر هذه، لم تجد منها نافيا للجسمية إلا وهو ناف للجهة، ثم ما يؤمنك من تناسخي يفهم من قوله تعالى: في أي صورة ما شاء ركبك مذهبه، ومن معطل يفهم من قوله تعالى: مما تنبت الأرض مراده، فحينئذ لا تجد مساغا لما نقض به من ذلك إذا الأدلة الخارجة عن هذه الألفاظ.

ص 8

إلزامه له في قوله: إن مقالة الشافعية والحنفية والمالكية يلزمها أن يكون ترك الناس بلا كتاب ولا سنة أهدى لهم منها، بالكفر ثم صار حاصل كلامك: أن مقاله الشافعية والحنفية والمالكية يلزمها أن يكون ترك الناس بلا كتاب ولا سنة أهدى لهم، أفتراهم يكفرونك بذلك أم لا، ثم جعلت أن مقتضى كلام المتكلمين أن الله تعالى ورسوله وسلف الأمة تركوا العقيدة حتى بينها هؤلاء فقل لنا إن الله ورسوله وسلف الأمة بينوها ثم أنقل عنهم أنهم قالوا كما تقول إن الله تعالى في جهة العلو لا في جهة السفل، وإن الإشارة الحسية جائزة إليه، فإذا لم تجد ذلك في كتاب الله ولا في كلام رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا في كلام أحد من العشرة ولا في كلام أحد من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار رضي الله تعالى عنهم، فعد على نفسك باللائمة، وقل لقد ألزمت القوم بما لا يلزمهم. ثم قلت عن المتكلمين إنهم يقولون ما يكون على وفق قياس العقول فقولوه وإلا فانفوه، والقوم لم يقولوا ذلك بل قالوا صفة الكمال يجب ثبوتها لله تعالى وصفة النقص يجب نفيها عنه كما قاله الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه، قالوا: وما ورد من الله تعالى ومن رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فليعرض على لغة العرب التي أرسل الله تعالى محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) بلغتها كما قال تعالى: وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه فما فهمت العرب فافهمه ومن جاءك بما يخالفه فانبذ كلامه نبذ الحذاء المرقع واضرب بقوله حائط الحش.

ص 9

عقيدة ابن تيمية التي خالف بها جماعة المسلمين وأساء القول فيهم في تلقفها من حثالة الملاحدة الطاعنين في القرآن ثم نعقد فصلا إن شاء الله تعالى عبد إفساد ما نزع به في سبب ورود هذه الآيات على هذا الوجه، فإنه إنما تلقف ما نزع به في مخالفة الجماعة وأساء القول على المسألة من حثالة الملاحدة الطاعنين في القرآن، وسنبين إن شاء الله تعالى ضلالهم، ويعلم إذا ذاك من هو من فراخ الفلاسفة واليهود، ثم لو استحيى الغافل لعرف مقدار علماء الأمة رحمهم الله تعالى، ثم هل رأى من رد على الفلاسفة واليهود والروم والفرس غير هؤلاء الذين جعلهم فراخهم؟، وهل اتكلوا في الرد على هذه الطوائف على قوم لا عقل لهم ولا بصيرة ولا إدراك؟، ثم يدرونهم يستدلون على إثبات الله تعالى في الحجاب على منكره بالنقل، وعلى منكري النبوة بالنقل، حتى يصير مضغة للماضغ وضحكة للمستهزئ، وشماتة للعدو وفرحا للحسود إه‍. ثم قال العلامة المذكور: ثم أفاد المدعي وأسند أن هذه المقالة (يعني في نفي الجهة لله تعالى) مأخوذة من تلامذة اليهود والمشركين، وذكر ابن تيمية إسنادها إلى لبيد بن الأعصم اليهودي الذي سحر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال العلامة الراد: فيقال له: أيها المدعي أن هذه المقالة مأخوذة من تلامذة اليهود قد خالفت الضرورة في ذلك، فإنه ما يخفى على جميع الخواص وكثير من العوام أن اليهود مجسمة مشبهة، فكيف يكون ضد التجسيم والتشبيه مأخوذا عنهم؟، وأما المشركون فكانوا عباد أوثان، وقد بينت الأئمة أن عبدة الأصنام تلامذة المشبهة وأن أصل عبادة الصنم التشبيه، فكيف يكون نفيه مأخوذا عنهم، وأما الصابئة فبلدهم معروف وإقليمهم مشهور، وهل نحن منه أو خصومنا؟، وأما كون الجعد بن درهم من أهل حران، فالنسبة صحيحة، وترتيب هذا السند الذي ذكره سيسأله الله تعالى عنه، والله من رائه بالمرصاد، وليت لو أتبعه أن سند دعواه وعقيدته أن فرعون ظن أن إله موسى في السماء.

ص 10

مخالفة ابن تيمية لعماء الإسلام قاطبة في تفسير قول الإمام مالك (الاستواء معلوم والكيف مجهول) ثم قال العلامة: ثم أخذ بعد ذلك في تصديق عزوته إلى المهاجرين والأنصار رضي الله تعالى عنهم، وشرع في النقل عنهم فقال: قال الأوزاعي: كنا والتابعون متوافرون نقول: إن الله تعالى ذكره فوق عرشه، فنقول له أول ما بدأت به الأوزاعي وطبقته ومن بعدهم، فأين السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار؟، وأما قول الأوزاعي فأنت قد خالفته ولم تقل به، لأنك قلت إن الله ليس فوق عرشه لأنك قررت أن العرش والسماء ليس المراد بهما إلا جهة العلو، وقلت المراد من فوق عرشه والسماء ذلك، فقد خالفت قول الأوزاعي صريحا مع أنك لم تقل قط ما يفهم، فإن قررت أن السماء في العرش كحلقة ملقاة في فلاة فكيف تكون هي بعد؟. ثم من أين لك صحة النقل عن الأوزاعي؟، وبعد مسامحتك في كل ذلك ما قال الأوزاعي: الله فوق العرش حقيقة، فمن أين لك هذه الزيادة؟. ونقل عن مالك بن أنس والثوري والليث والأوزاعي أنهم قالوا في أحاديث الصفات أقروها كما جاءت، فيقال له لم لا أمسكت على ما أمرت به الأئمة بل وصفت الله تعالى بجهة العلو ولم يرد بذلك خبر؟، ولو بذلت قراب الأرض ذهبا على أن تسمعها من عالم رباني لم تفرح بذلك، بل تصرفت ونقلت على ما خطر لك وما أمررت ولا أقررت ولا امتثلت ما نقلته عن الأئمة. وروى قول ربيعة ومالك الاستواء غير مجهول فليت شعري من قال إنه مجهول بل أنت زعمت أنه لمعنى عينته وأدرت أن تعزوه إلى الإمامين؟، ونحن لا نسمح لك بذلك، نم نقل عن مالك أنه قال للسائل: الإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة وما أراك إلا مبتدعا فأمر به فأخرج، فيقال له ليت شعري من امتثل منا قول مالك؟، هل امتثلناه

ص 11

نحن حيث أمرنا بالإمساك وألجمنا العوام عن الخوض في ذلك؟، أو الذي جعله دراسته يلقيه ويلفقه ويلقنه ويكتبه ويدرسه ويأمر العوام بالخوض فيه، وهل أنكر على المستفتي في هذه المسألة بعينها وأخرجه كما فعل مالك رضي الله تعالى عنه فيها بعينها؟، وعند ذلك يعلم أن ما قاله عن مالك حجة عليه لا له إه‍. منشأ اعتقاد الجهة لله تعالى قياس الخالق على المخلوق وأؤمل من قاس قياسه فاسدا إبليس قد تقرر فيما تقدم أن هذه الطائفة مقلدي محمد بن عبد الوهاب مجسمة مكفرة، وأن مقلدهم محمد بن عبد الوهاب مقلد فيهما أحمد بن تيمية، وهذا مقلد فيهما الكرامية وطائفة من الحنابلة، وهذه الطائفة قال فيها ابن الجوزي الحنبلي: أنهم شانوا مذهب أحمد، وفضحوا ذاك الإمام بجهلهم، وإن مذهبه التنزيه ولكنهم اختلفوا وأنه أدرك منهم مشايخا، وأكثر من أدركه لا عقل له وصاحب الدار أدرى بما فيها. وتحقق من رسالة العلامة أحمد بن يحيى الكلابي الحلبي في رده على ابن تيمية إن ابن تيمية جازم بأن الله تبارك وتعالى في جهة العلو فوق العرش حقيقة مؤول للسماء بجهة العلو، وقد صرح بجهة العلو لله تبارك وتعالى في كتابه: منهاج السنة ، مفسرا لقول الإمام مالك في: (الرحمن على العرش استوى)، الاستواء معلوم والكيف ،مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة، بأنه معلوم جلوسه تبارك وتعالى على العرش وكيفية جلوسه مجهولة، شاذا عن علماء الإسلام الأعلام الذين فسروه بأنه معلوم في لغة العرب، ولكن حيث كان الاستواء متعلقا بالله جل جلاله فكيفيته مجهولة، وقد صرح بالجسمية لله تعالى في كتابه العرش، كما ذكره صاحب كشف الظنون ناقلا له عن أبي حيان قال: ذكر فيه أن الله سبحانه وتعالى يجلس على العرش وقد أخلى مكانا يقعد معه فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، كما ذكر ذلك أبو حيان

ص 12

في النهر في قوله سبحانه وتعالى (وسع كرسيه السماوات والأرض) قال التقي السبكي: وكتاب العرش من أقبح كتبه إ ه‍. ومن تجرد عن العاطفة وطالع تآليفه وتآليف تلميذه ابن القيم، وقد طبعت بإنصاف، يجد فيها هذه المصائب كلها، التجسيم واعتقاد الجهة لله وتكفير المسلمين المخالفين لرأيه، وغير ذلك كما يجدها مملوءة بنسبة هذا الوضر إلى السلف الصالح افتراء وتلبيسا وتهويلا على البسطاء فلو اجتمع معه الثقلان على إثبات التصريح بالجهة لله تعالى بإسناد صحيح عن أتباع التابعين لم يستطيعوا ذلك، فضلا عن إثباته عن التابعين، فضلا عن إثباته عن الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم، فضلا عن إثباته عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). ومن أثنى على هذا الرجل من المعاصرين له والمتأخرين عنه ونسبه إلى مذهب السلف الصالح، كالملا إبراهيم الكوراني على قاعدة وجوب تحسين الظن بالمسلم، لا سيما من انتسب إلى العلم، لم يطلع على تآليفه، وتضارب كلامه وتخليطه فيها، ومن دافع عنه وبرأه وجهل العلماء الذين ناظروه فأفحموه وردوا عليه بالتآليف فأجادوا، فهو إما جاهل مؤجر، كنعمان الآلوسي في كتابه جلاء العينين في محاكمة الأحمدين وأما جاهل مفتتن به، كصديق حسن خان ملك يهوبال، فإنه افترى على أهل الحديث كلهم وعلى الأشاعرة بأنهم تيمية، أي يعتقدون أن الله تبارك وتعالى في جهة العلو في كتابه: الانتقاد الرجيح في شرح الاعتقاد الصحيح)، الذي شرح به في زعمه عقيدة المحدث شاه ولي الله الدهلوي المطبوع على هامش، (جلاء العينين) قال فيه: ومن الذين أثبتوها (يعني الجهة لله) بالنقل أهل الحديث بأجمعهم والأشاعرة، وتسمية المتكلمين إياهم بالمجسمة والمشبهة تعصب منهم وتحكم إه‍. وقد بلغني أن صديق حسن هذا كان يجمع عنده طلبة العلم فيغدق عليهم المال، فيكتبون له ما يريد وينسبون إليه. ومحمد بن علي الشوكاني وسيأتي بسط حاله.

ص 13

جمهور الأمة الإسلامية على تنزيه الله تعالى عن مشابهة الحوادث اتفق العقلاء من أهل السنة الشافعية والحنفية والمالكية وفضلاء الحنابلة وغيرهم على أن الله تبارك وتعالى منزه عن الجهة والجسمية والحد والمكان ومشابهة مخلوقاته. كلام أبي المعالي إمام الحرمين في لمع الأدلة في تنزيه الله تعالى عن مشابهة الحوادث كلام شارحها شرف الدين التلمساني قال أبو المعالي إمام الحرمين في كتابه: لمع الأدلة في قواعد عقائد أهل السنة ، الرب سبحانه وتعالى تقدس عن الاختصاص بالجهات والاتصاف بالمحاذاة، لا تحده الأفكار ولا تحويه الأقطار ولا تكتنفه الأقدار، ويجل عن قبول بالحد والمقدار، والدليل على ذلك أن كل مختص بجهة شاغل لها، وكل متحيز قابل لملاقاة الجواهر ومفارقتها، ولك ما يقبل الاجتماع والافتراق حادث كالجواهر. وأطال الشيخ شرف الدين بن التلمساني في شرحها الكلام على ذلك إلى أن قال: والجواب الجملي عن الجميع، أي جميع متشابهات الكتاب والسنة التي تمسك بها مثبتو الجهة لله تعالى، إن الشرع إنما يثبت بالعقل فلا يتصور وروده بما يكذب العقل فإنه شاهده، فلو أتى بذلك لبطل الشرع والعقل معا إ ه‍. وقال العلامة سعد الدين التفتازاني في شرح المقاصد: وأما القائلون بحقيقة الجسمية والحيز والجهة، فقد بنوا مذهبهم على قضايا وهمية كاذبة تستلزمها وعلى ظواهر آيات وأحاديث تشعر بها، أما الأول فكقولهم: كل موجود فهو إما جسم أو حال في جسم، والواجب يمتنع أن يكون حالا في الجسم لامتناع احتياجه، فتعين كونه جسما وكقولهم: كل موجود إما متحيز أو حال في المتحيز، ويتعين كونه متحيزا لما مر، وكقولهم: الواجب إما متصل بالعالم وإما منفصل عنه، وأياما كان يكون في جهة منه، وكقولهم: الواجب إما داخل في العالم فيكون متحيزا أو خارج عنه فيكون في جهة

ص 14

منه ويدعون في صحة هذه المنفصلات وتمام انحصارها الضرورة، والجواب: المنع كيف وليس تركيبها عن الشيء ونقيضه أو المساوي لنقيضه، وأطبق أكثر العقلاء على خلافها وعلى أن الموجود إما جسم أو جسماني، أو ليس بجسم ولا جسماني، وكذا باقي التقسيمات المذكورة والجزم بالانحصار في القسمين إنما هو من الأحكام الكاذبة للوهم، ودعوى الضرورة مبنية على العناد والمكابرة أو على أن الوهميات كثيرا ما تشتبه بالأوليات. وأما الثاني فكقوله تعالى: (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله)، (الرحمن على العرش استوى)، (إليه يصعد الكلم الطيب)، (ويبقى وجه ربك)، (يد الله فوق أيديهم)، ولتصنع على عيني)، (لما خلقت بيدي)، (والسماوات مطويات بيمينه)، (يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله) إلى غير ذلك، وكقوله عليه الصلاة والسلام للجارية: (أين الله) فقالت: في السماء، فلم ينكر عليها وحكم بإسلامها، وكقوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله ينزل إلى سماء الدنيا - الحديث)، (إن الله خلق آدم على صورته)، (إن الجبار يضع قدمه في النار)، (إنه يضحك إلى أوليائه)، (إن الصدقة تقع في كف الرحمن) إلى غير ذلك. والجواب أنها ظنيات سمعية في معارضة قطعيات عقلية، فيقطع بأنها ليست على ظواهرها، ويفوض العلم بمعانيها إلى الله تعالى مع اعتقاد حقيقتها جريا على الطريق الأسلم الموافق للوقف على إلا الله في قوله تعالى: وما يعلم تأويله إلا الله ، أو تؤول تأويلات مناسبة موافقة لما عليه الأدلة العقلية، على ما ذكر في كتب التفاسير وشروح الأحاديث، سلوكا للطريق الأحكم الموافق للعطف في (إلا الله والراسخون في العلم). فإن قيل: إذا كان الدين الحق نفي الحيز والجهة، فما بال الكتب السماوية والأحاديث النبوية مشعرة في مواضع لا تحصى بثبوت ذلك، من غير أن يقع في موضع منها تصريح بنفي ذلك وتحقيق؟، كما كررت الدلالة على وجود الصانع ووحدت وعلمه وقدرته وحقيقة المعاد وحشر الأجساد في عدة مواضع، وأكدت غاية التأكيد مع أن هذا

ص 15

أيضا حقيق بغاية التأكيد والتحقيق، لما تقرر في فطرة العقلاء، مع اختلاف الأديان والآراء من التوجه إلى العلو عند الدعاء ورفع الأيدي إلى السماء. أجيب: بأنه لما كان التنزيه عن الجهة مما تقصر عنه عقول العامة، حتى تكاد تجزم بنفي ما ليس في الجهة كان الأنسب في خطاباتهم والأقرب إلى صلاحهم والأليق بدعوتهم إلى الحق ما يكون ظاهرا في التشبيه، وكون الصانع في أشرف الجهات، مع تنبيهات دقيقة على التنزيه المطلق عما هو من سمات الحدوث، وتوجه العقلاء إلى السماء ليس من جهة اعتقادهم إنه في السماء بل من جهة أن السماء قبلة الدعاء، إذ منها تتوقع الخيرات والبركات وهبوط الأنوار ونزول الأمطار إه‍. وقال بعضهم: ليس في ذلك دليل على كونه في الجهة، وهذا لأنهم أمروا بالتوجه في الصلاة إلى الكعبة وليس هو في جهة الكعبة، وأمروا برمي أبصارهم إلى موضع سجودهم حالة القيام في الصلاة وليس هو في الأرض، وكذا حال السجود أمروا بوضع الوجوه على الأرض وليس هو تحت الأرض، فكذا هنا بل تعبد محض وخضوع وخشوع إ ه‍. تحقيق نفيس في نفي الجهة عن الله تعالى للإمام حجة الإسلام الغزالي وقال حجة الإسلام الغزالي: في كتاب الاقتصاد في الاعتقاد إنه تعالى ليس في جهة مخصوصة من الجهات الست، ومن عرف معنى لفظ الجهة ومعنى لفظ الاختصاص، فهم قطعا استحالة الجهة على غير الجواهر والأعراض، إذ الحيز معقول وهو الذي يختص الجوهر به، ولكن الخير إنما يصير جهة إذا أضيف إلى شيء آخر متحيز. فإن قيل نفي الجهة مؤد إلى محال، وهو إثبات موجود تخلو عنه الجهات الست ويكون داخل العالم ولا خارجه ولا متصلا به ولا منفصلا عنه وذلك محال، قلنا: مسلم أن كل موجود يقبل الاتصال فوجوده لا منفصلا ولا متصلا به محال، وأن كل موجود

ص 16

يقبل الاختصاص بجهة فوجوده مع خلو الجهات الست عنه محال، فأما موجود لا يقبل الاتصال. ولا الاختصاص بجهة فخلوه عن طرفي النقيض غير محال وهو كقول القائل: يستحيل موجود لا يكون عاجزا ولا قادرا ولا عالما ولا جاهلا، فإن المتضادين لا يخلو الشيء عنهما فيقال له: إن كان ذلك الشيء قابلا للمتضادين فيستحيل خلوه عنهما، أما الجدار الذي لا يقبل واحد منهما لأنه فقد شرطهما وهو الحياة فخلوه عنهما ليس بمحال، فلذلك شرط للاتصال والاختصاص بالجهات التحيز والقيام بالمتحيز، فإذا فقد هذا لم يستحل الخلو عن مضاديه إ ه‍. جواب نفيس للعلامة أبي عبد الله بن جلال عن قولهم: إنه لا داخل العالم ولا خارج العالم وسئل العلامة أبو عبد الله محمد بن جلال هل يقال: المولى تبارك وتعالى لا داخل العالم ولا خارج العالم. فأجاب بأنا نقول ذلك ونجزم به ونعتقد أنه لا داخل العالم ولا خارج العالم، والعجز عن الإدراك إدراك، لقيام الدلائل الواضحة على ذلك عقلا ونقلا. أما النقل: فالكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب فقوله تعالى: (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير). فلو كان في العالم أو خارجا عنه لكان مماثلا وبيان المماثلة واضح. أما في الأول فلأنه إن كان فيه صار من جنسه فيجب له ما وجب له. وأما الثاني فلأنه إن كان خارجا لزم إما اتصاله وإما انفصاله إما بمسافة متناهية أو غير متناهية وذلك كله يؤدي لافتقاره إلى مخصص. وأما السنة فقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): كان الله ولا شيء معه وهو الآن على ما كان عليه . وأما الإجماع فأجمع أهل الحق قاطبة على أن الله تعالى لا جهة له، فلا فوق ولا تحت ولا يمين ولا شمال ولا أمام ولا خلف. وأما العقل فقد اتضح لك اتضاحا كليا مما مر في بيات الملازمة في قوله تعالى: (ليس كمثله شيء). والاعتراض بأنه رفع للنقيضين ساقط، لأن التناقض إنما يعتبر حيث يتصف المحل بأحد النقيضين ويتواردان عليه، وأما حيث لا يصح تواردهما على المحل ولا يمكن الاتصاف بأحدهما فلا تناقض كما يقال مثلا: الحائط لا أعمى ولا

ص 17

بصير، فلا تناقض لصدق النقيضين فيه لعدم قبوله لهما على البدلية، وكما يقال في الباري أيضا: لا فوق ولا تحت، وقس على ذلك إ ه‍. وقال الشيخ أبو حفص الفاسي في حواشي الكبرى: لا شك أن المعتقد هو أن الله تعالى سبحانه ليس في جهة، وقد أوضح الأئمة تقريره في الكتب الكلامية بما لا مزيد عنه، فهو سبحانه ليس داخل العالم ولا خارجه ولا متصلا به ولا منفصلا عنه، وتوهم أن في هذا رفعا للنقيضين وهو محال، باطل، إذ لا تناقض بين داخل وخارج، وإنما التناقض بين داخل ولا داخل وليس خارج مساويا للداخل وإنما هو أخص منه، فلا يلزم من نفيه لأن نفي الأخص أعم من نفي الأعم، والأعم لا يستلزم الأخص. فإن قيل بم ينفرد هذا الأعم الذي هو داخل عن الأخص الذي هو خارج. قلنا: ينفرد في موجود لا يقبل الدخول ولا الخروج ولا اتصال ولا انفصال، وهذا يحمله العقل ولكن يقصر عنه الوهم، وقصور الوهم منشأ الشبهة ومثار دعوى الاستحالة إ ه‍. احتجاج ابن تيمية على إثبات الجهة الله تعالى وقد احتج ابن تيمية على إثبات الجهة لله تعالى مقلدا سلفه المجسمة بقوله تعالى حكاية عن فرعون: (يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا)، وقد ذكر ذلك في رسالته التي نقضها عصريه أحمد بن يحيى الكلابي مجملا فقال العلامة المذكور رادا عليه: ليت شعري كيف فهم من كلام فرعون أن الله تعالى فوق السماوات وفوق العرش، أما أن إله موسى في السماوات فما ذكره، وعلى تقدير فهم ذلك من كلام فرعون فكيف يستدل بظن فرعون مع إخبار الله تعالى عنه بأنه زين له سوء عمله وأنه حاد عن سبيل الله وأن كيده في ضلال، مع أنه لما سأل موسى عليه الصلاة والسلام بقوله: (وما رب العالمين) لم يتعرض موسى للجهة بل لم يذكر إلا أخص الصفات وهي القدرة على الاختراع ولو كانت الجهة ثابتة لكان التعريف بها أولى الإشارة الحسية من أقوى

ص 18

المعرفات حسا وعرفا، وفرعون سأل بلفظ ما فكان الجواب بالتحيز أولى من الصفة. وغاية ما فهمه من هذه الآية واستدل به فهم فرعون فيكون عمدة هذه العقيدة كون فرعون ظنها وهو مشيدها، فليت شعري لم لا ذكر النسبة إليه كما ذكر أن عقيدة سادات أمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) الذين نبزهم بالجهمية لمخالفتهم هواه متلقاة من لبيد بن الأعصم اليهودي إ ه‍. وقد بين عقيدته فارا من شناعة مشيخة فرعون عليه وعلى أسلافه محاولا إلصاقها بموسى، برأه الله تعالى من ذلك، وصلى عليه في رسالته: الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 134 قال: فلولا أن موسى أخبره أن ربه فوق العالم لما قال: (أطلع إلى إله موسى)، وفي ص 144 منها قال: وحقيقة قول الجهمية المعطلة هو قول فرعون، وثرثر إلى أن قال: وكان ينكر أن يكون الله كلم موسى، أو لا يكون لموسى إله فوق السماوات. وقال في رسالته: صفات الله وعلوه على خلقه ص 211 كذب فرعون موسى في قوله إن الله فوق السماوات ، والمفسرون متفقون على أن معنى قوله (وإني لأظنه كاذبا) في أن له إلها غيري بدليل قوله: (ما علمت لكم من إله غيري). قد تحقق عن علماء الإسلام إن معتقدي الجهة لله تعالى قاسوا الخالق على المخلوق وقد تحقق بما نقلته عن علماء الإسلام المحققين إن معتقدي الجهة لله تعالى قاسوا الخالق على المخلوق، وأنهم من العوام لم تستسغ عقولهم استحالة الجهة على الله تبارك وتعالى، وأنهم مؤولون كل ما يوهم جهة العلو لله تعالى من ظواهر الكتاب والسنة بما يوافق هواهم فيقولون: (استوى على العرش) جلس عليه واستوى على العرش بذاته، وحقيقته، وعلى عرشه بائن من خلقه، (وهو القاهر فوق عباده)، (ويخافون ربهم من فوقهم) بفوقية حقيقة و(آمنتم من في السماء) بأن

ص 19

من معناها الله و في بمعنى على والسماء بمعنى العرش يعني آمنتم الله على العرش فظفروا في التأويل ثلاث طفرات، وهكذا مفوضون فيما جاء من ذلك ضد رأيهم كقوله تعالى: (يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده ووجد شيئا الله عنده)، وقوله تعالى: (تحيتهم يوم يلقونه سلام) وملاقو ربهم) و(يد الله فوق أيديهم) وقوله تعالى: (فآتاهم الله من حيث لم يحتسبوا) وقوله تعالى: (وجاء ربك)، وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): إذا قام أحدكم في صلاته فلا يبصقن في قبلته فإن ربه بينه وبين الجدار ، وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الحديث القدسي: إذا تقرب مني عبدي شبرا تقربت منه ذراعا وإذا أتاني يمشي أتيته هرولة . وهكذا فهم مؤولون مفوضون، والتأويل مباح لهم محظور على غيرهم، ومع هذا الخبط ينبزون المنزهين لله تعالى عن مشابهة بالجهمية، سبحان واهب العقول. ثبت ثبوتا لا يكابر فيه إلا غبي أن الأرض كروية وأن السماء محيطة تضبها من جميع جوانبها على أنه قد ثبت ثبوتا لا يكابر فيه إلا غبي أن الأرض كروية، وأن السماء محيطة بها من جميع جوانبها، وعليه فالعلو غير حقيقي بل هو نسبي، فما من علو لقوم إلا وهو سفل لآخرين، لأن الجهات التي هي الفوق والتحت واليمين إلى آخرها حادثة بإحداث الإنسان ونحوه مما يمشي على رجلين، فإن الفوق ما يحاذي رأسه من فوق والباقي ظاهر، ولما يمشي على أربع أو على بطنه ما يحاذي ظهره من فوقه، وأن النملة إذا مشت على سقف كان الفوق بالنسبة إليها جهة الأرض لأنه المحاذي لظهرها، والعجز عن إدراكه تعالى إدراك مأثور عن الصديق الأكبر أبي بكر رضي الله تعالى عنه، وقد نقله العلماء في كتبهم: (والعجز عن إدراكه الصديق. قال هو الإدراك والتحقيق) وقال آخر: (وكلما تخطره ببالك. فربنا منزه عن ذلك).

ص 20




الفصل الثاني:
في توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية



توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية الذي اخترعه ابن تيمية وزعم أن جميع فرق المسلمين من المتكلمين عبدوا غير الله لجهلهم توحيد الألوهية ولم يعرفوا من التوحيد إلا توحيد الربوبية وهو الإقرار بأن الله خالق كل شيء وزعم أن هذا اعترف به المشركون، فكفر به جميع المسلمين وقلده فيه محمد بن عبد الوهاب كما قلده في غيره، لم يطلع عليه العلماء المعاصرون له والمتأخرون عنه الرادون عليه ردا سديدا في كثير من شواذه، ولو اطلعوا عليه لرشقوه بسهام علومهم الصائبة. وقد كتب فيه العلامة المرحوم السيد أحمد بن زيني دحلان المتوفى سنة أربع وثلاثمائة وألف في رسالته (الدرر السنية في الرد على الوهابية) نبذة وكتب فيه العلامة الشيخ إبراهيم السمنودي المنصوري المتوفى سنة أربع عشرة وثلاثمائة وألف في كتابه (سعادة الدارين في الرد على الفرقتين الوهابية والظاهرية) كلاما جيدا. وكتب فيه العلامة المرحوم الشيخ سلامة العزامي المتوفى سنة ست وسبعين وثلاثمائة وألف في كتابه (البراهين الساطعة في رد بعض البدع الشائعة) كلاما نفيسا نصه: (بيان أن منشأ الشبه الجهل بمعنى الإيمان والعبادة شرعا) فاعلم أن الإيمان هو التصديق بما علم مجئ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) به واشتهر بين الخاصة والعامة اشتهارا يلحقه بالضروريات، وأن الكفر - نعوذ بالله منه - هو إنكار شيء من ذلك بعد أن يعلم المنكر أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) جاء به، وأن معنى العبادة شرعا هو الإتيان بأقصى الخضوع قلبا وقالبا، فهي إذن نوعان قلبية وقالبية، فالقلبية هي اعتقاد الربوبية أو خصيصة من خصائصها كالاستقلال بالنفع أو الضر ونفوذ المشيئة لا محالة لمن اعتقد فيه

ص 21

ذلك، والقالبية هي الإتيان بأنواع الخضوع الظاهرية من قيام وركوع وسجود وغيرها مع ذلك الاعتقاد القلبي فإن أتى بواحد منها بدون ذلك الاعتقاد لم يكن ذلك الخضوع عبادة شرعا ولو كان سجودا، وإنما قال العلماء بكفر من سجد للصنم، لأنه أمارة على ذلك الاعتقاد لا لأنه كفر من حيث ذاته، إذ لو كان لذاته كفرا لما حل في شريعة قط فإنه حينئذ يكون من الفحشاء والله لا يأمر بالفحشاء. وقد كان السجود لغير الله عز وجل على وجه التحية والتكريم مشروعا في الشرائع السابقة وإنما حرم في هذه الشريعة، فمن فعله لأحد تحية وإعظاما من غير أن يعتقد فيه ربوبية كان آثما بذلك السجود، ولا يكون به كافرا إلا إذا قارنه اعتقاد الربوبية للمسجود له، ويرشدك إلى ذلك قوله عز وجل في يعقوب نبي الله وامرأته وبنيه حين دخلوا على يوسف: (وخروا له سجدا). قال ابن كثير تفسيرها: أي سجد له أبواه وإخوته الباقون وكانوا أحد عشر رجلا، وقد كان هذا سائغا في شرائعهم إذا سلموا على الكبير يسجدون له، ولم يزل هذا جائزا من لدن آدم إلى شريعة عيسى عليه الصلاة والسلام، فحرم هذا في هذه الملة إ ه‍. المقصود منه، ويوضح لك ذلك أيضا أمره عز وجل الملائكة بالسجود لآدم، فكان سجودهم له عليه الصلاة والسلام عبادة للآمر عز وجل، وإكراما لآدم عليه الصلاة والسلام. بيان خطأ من قال من الملاحدة إن تعظيم الكعبة والحجر الأسود من الوثنية وجهل من قال بعدم التلازم بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية وعدم كفاية الأول في النجاة ومن هذا تعلم أن تعظيم البيت بالطواف حوله، وتعظيم الحجر الأسود باستلامه وتقبيله والسجود عليه ليس عبادة شرعا للبيت ولا للحجر وإنما هو عبادة للآمر بذلك عز وجل الذي اعتقد الطائف ربوبيته سبحانه، فليس كل تعظيم الشيء عبادة له شرعا

ص 22

حتى يكون شرعا، بل منه ما يكون واجبا أو مندوبا إذا كان مأمورا به أو مرغبا فيه، ومنه ما يكون مكروها أو محرما، ومنه ما يكون مباحا، ولا يكون التعظيم لشيء شركا حتى يقارنه اعتقاد ربوبية ذلك الشيء أو خصيصة من خصائصها له، فكل من عظم شيئا فلا يعتبر في الشرع عابدا له إلا إذا اعتقد فيه ذلك الاعتقاد. وقد استقر في عقول بني آدم ما داموا على سلامة الفطرة أن من ثبتت له الربوبية فهو للعبادة مستحق، ومن انتفت عنه الربوبية فهو غير مستحق للعبادة، فثبوت الربوبية، واستحقاق العبادة متلازمان فيما شرع الله في شرائعه وفيما وضع في عقول الناس، وعلى أساس اعتقاد الشركة في الربوبية بنى المشركون استحقاق العبادة لمن اعتقدوهم أربابا من دون الله تعالى سبحانه، ومتى انهدم هذا الأساس من نفوسهم تبعه ما بني عليه من استحقاق غيره للعبادة، ولا يسلم المشرك بانفراد الله تعالى باستحقاق العبادة حتى يسلم بانفراده عز وجل بالربوبية، وما دام في نفسه اعتقاد الربوبية لغيره عز وجل استتبع ذلك اعتقاده في هذا الغير الاستحقاق للعبادة، وذلك كان من الواضح عند أولي الألباب إن توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر في الوجود وفي الاعتقاد، فمن اعترف بأنه لا رب إلا الله كان معترفا بأنه لا يستحق العبادة غيره، ومن أقر بأنه لا يستحق العبادة غيره كان مذعنا بأنه لا رب سواه، وهذا الثاني هو معنى (لا إله إلا الله) في قلوب جميع المسلمين. ولذلك نرى القرآن في كثير من المواضع يكتفي بأحدهما عن الآخر، ويرتب اللوازم المستحيلة على انتفاء أي واحد منهما، ليستدل بانتفائها على ثبوته فانظر إلى قوله تعالى: (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا)، وقوله تعالى: (وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض) حيث عبر بالإله ولم يعبر بالرب. وكذلك في الميثاق الأول قال سبحانه: (ألست بربكم) ولم يقل بإلهكم،

ص 23

واستفاض عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن الملكين يقولان للميت في قبره (من ربك)؟ ويكتفيان بالسؤال عن توحيد الربوبية ويكون جوابه بقوله: (الله ربي) كافيا، ولا يقولان له إنما اعترفت بتوحيد الربوبية وليس توحيد الربوبية كافيا في الإيمان. وهذا خليل الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام يقول لذلك الجبار (ربي الذي يحيي ويميت)، فيجادله بأنه كذلك يحيي ويميت إلى أن حاجه خليل الله بما يكذب دعوى ربوبيته فتندحض دعوى استحقاقه للعبادة. وفيما حكى الله عن فرعون أنه قال مرة: (ما علمت لكم من إله غيري)، ومرة أخرى: (أنا ربكم الأعلى). وبالجملة فقد أومأ القرآن العظيم والسنة المستفيضة إلى أن تلازم توحيد الربوبية والألوهية مما قرره رب العالمين، واكتفى سبحانه من عبده بأحدهما عن صاحبه لوجود هذا التلازم، والملائكة المقربون، وفهم الناس هذا التلازم حتى الفراعنة الكافرون، فما هذا الذي يفتريه أولئك المبتدعة الخراصون، فيرمون المسلمين بأنهم قائلون بتوحيد الربوبية دون توحيد العبادة وأنه لا يكفيهم ذلك في إخراجهم من الكفر وإدخالهم في الإسلام حتى تحقن دماؤهم؟ بل يستبيحون ذبح المسلم المسالم لهم وهو يقول: لا إله إلا الله ويقولون فيه إنه ما اعترف بتوحيد الألوهية، وإنما يعني توحيد الربوبية وهو غير كاف، فلا يقبلون ما دل عليه صريح كلامه، ويرفضون الاكتفاء بما اكتفى به الله من عبده يوم الميثاق الأول، وارتضته ملائكته حين يسأل العبد في قبره من الاعتراف بتوحيد الربوبية، حيث كان مستلزما لتوحيد الألوهية، وكان التصريح بما يفيد أحدهما تصريحا بما يدل على الآخر، فالناطق بلا إله إلا الله معترف بالتوحيد لله في ألوهيته وربوبيته جميعا، والقائل ربي الله معترف بكلا التوحيدين جميعا. والآن ألفت نظرك أيها المحقق إلى قوله تعالى: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا.) الآية وهي في موضعين من كتاب الله تعالى ولم يقل إلهنا، وقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لمن سأله عن وصية جامعة: (قل ربي الله ثم استقم)، ولم يقل إلهي بكفاية توحيد الربوبية في النجاة والفوز لاستلزامه توحيد الألوهية بشهادة الله رسوله. وإلى قوله تعالى: (وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو)، وقول

ص 24

رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله). وإلى قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأسامة بن زيد حين قتل من قال لا إله إلا الله إذ أهوى إليه بالسيف ظنه قالها تعوذا، والقرائين قوية على هذه الظن كما يعلم من تفصيل القصة، (يا أسامة أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله أشققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا؟) ولم يعتذر أسامة بأنه إنما عنى توحيد الربوبية، وهو غير كاف في الدخول في الإسلام وحقن الدم به ولم يعن توحيد العبادة، ففي ذلك كله وغيره مما لم نذكره أبين البيان. لأن القول بأحد التوحيدين قول بالآخر، وإنما جر هذا المبتدع ومن انخدع بأباطيله هذه أنه لم يحقق معنى العبادة شرعا كما يدل عليه استقراء موارد هذه اللفظة في كلام الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فظن أن التوسل برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وسائر الصالحين والاستغاثة بهم مع استقرار القلب على أنهم أسباب لا استقلال لهم بنفع ولا ضر وليس لهم من الربوبية شيء ولكن الله جعلهم مفاتيح لخيره ومنابع لبره وسحبا يمطر منها على عباده أنواع خيره، ظن أن ذلك وما إليه من الشرك المخرج عن الملة. ومن أرفقه التوفيق وفارقه الخذلان ونظر في المسألة نظر الباحث المنصف علم يقينا لا تخالطه ريبة أن مسمى العبادة شرعا لا يدخل فيه شيء مما عده من توسل واستغاثة وغيرهما، بل لا يشتبه بالعبادة أصلا فإن كل ما يدل على التعظيم لا يكون من العبادة إلا إذا اقترن به اعتقاد الربوبية لذلك المعظم أو صفة من صفاتها الخاصة بها. ألا ترى الجندي يقوم بين يدي رئيسه ساعة وساعات احتراما له وتأدبا معه فلا يكون هذا القيام عبادة للرئيس شرعا ولا لغة، ويقوم المصلي بين يدي ربه في صلاة بضع دقائق أو بعضها قدر ما يقرأ الفاتحة فيكون هذا القيام عبادة شرعا، وسر ذلك إن هذا القيام وإن قلت مسافته مقترن باعتقاد القائم ربوبية من قام له، ولا يقارن ذاك القيام هذا الاعتقاد إ ه‍.

ص 25

نص كلام ابن تيمية في توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية في كتبه في أربعة مواضع وقد اطلعت على كلام لابن تيمية في توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية مفرق في أربعة مواضع من كتبه أذكره كله ليراه القراء ثم أبطله: (1) - قال في الجزء الأول من فتاواه ص 219 في تفسير قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (ولا ينفع ذا الجد منك الجد) والمعنى أن صاحب الجد لا ينفعه منك جده، أي لا ينجيه ويخلصه منك جده وإنما ينجيه الإيمان والعمل الصالح، والجد هو الغنى وهو العظمة وهو المال، (إلى أن قال) فبين في هذا الحديث أصلين عظيمين أحدهما توحيد لربوبية وهو أن لا معطي لما منع الله ولا مانع لما أعطاه ولا يتوكل إلا عليه ولا يسأل إلا هو. والثاني توحيد الإلهية وهو بيان ما ينفع وما لا ينفع وأنه ليس كل من أعطى مالا أو دنيا أو رئاسة كان ذلك نافعا عند الله منجيا له من عذابه، فإن الله تعالى يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب ولا يعطي الإيمان إلا من يحب (إلى أن قال): وتوحيد الإلهية أن يعبد الله ولا يشرك به شيئا فيطيعه ويطيع رسل ويفعل ما يحبه ويرضاه، وأما توحيد الربوبية فيدخل ما قدره وقضاه، وإن لم يكن مما أمر به وأوجبه أرضاه، والعبد مأمور بأن يعبد الله ويفعل ما أمر به وهو توحيد الإلهية ويستغفر الله على ذلك وهو توحيد له فيقول: (إياك نعبد وإياك نستعين) إه‍. (2) - وقال في الجزء الثاني من فتاواه ص 275: فإن المقصود هنا بيان حال العبد المحض لله تعالى الذي يعبده ويستعينه فيعمل له ويستعينه، ويحقق قوله: (إياك نعبد وإياك نستعين)، توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية وإن كانت الإلهية تتضمن الربوبية والربوبية تستلزم الإلهية فإن أحدهما إذا تضمن الآخر عند الانفراد لم يمنع أن يختص بمعنا عند الاقتران كما في قوله: (قل أعوذ برب الناس الخ)، فجمع بين الاسمين فإن الإله هو المعبود الذي يستحق أن يعبد، والرب هو الذي يرب عبده إ ه‍.
LihatTutupKomentar