Maksud Amar Makruf Nahi Munkar dengan Tangan Lisan dan Hati (3)

Maksud Amar Makruf Nahi Munkar dengan Tangan Lisan dan Hati (3) قال ابن كثير- رحمه الله-: وقوله تعالى: ﴿وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً﴾ أي: كلموهم طيباً ولينوا لهم جانبا ويدخل في ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالمعروف كما قال الحسن البصري في قوله تعالى: ﴿وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنا﴾ فالحسن من القول يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويحلم ويعفو ويصفح ويقول للناس: حسنا كما قال الله وهو كل خلق حسن رضيه الله"(1).
Maksud Amar Makruf Nahi Munkar dengan Tangan Lisan dan Hati (3)

Baca juga:

- Maksud Amar Makruf Nahi Munkar dengan Tangan Lisan dan Hati (1)
- Maksud Amar Makruf Nahi Munkar dengan Tangan Lisan dan Hati (2)
- Maksud Amar Makruf Nahi Munkar dengan Tangan Lisan dan Hati (3)
- Amar Makruf Nahi Munkar menurut Imam Nawawi (1)
- Amar Makruf Nahi Munkar menurut Imam Nawawi (2)

من أعظم الخصال التي دعا إليها القرآن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال الله تعالى: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران: 104].

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أحسن الأقوال وأعظم الأعمال في ميزان الإسلام، قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [فصلت: 33]، وقال الله تعالى: ﴿وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنكُمْ وَأَنتُم مِّعْرِضُونَ﴾ [البقرة: 83].

قال ابن كثير- رحمه الله-: وقوله تعالى: ﴿وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً﴾ أي: كلموهم طيباً ولينوا لهم جانبا ويدخل في ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالمعروف كما قال الحسن البصري في قوله تعالى: ﴿وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنا﴾ فالحسن من القول يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويحلم ويعفو ويصفح ويقول للناس: حسنا كما قال الله وهو كل خلق حسن رضيه الله"(1).

والمجتمع المسلم يعيش في سعادة أبدية وبهجة سرمدية ما أمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وما إن يترك ذلك حتى تنزل المصائب وتتوالى الكوارث، قال تعالى: ﴿وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ﴾ [النمل: 82].

قال ابن جرير الطبري-رحمه الله-: "وقال جماعة من أهل العلم: خروج هذه الدابة التي ذكرها حين لا يأمر الناس بمعروف ولا ينهون عن منكر، ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب قال: ثنا الأشجعي عن سفيان عن عمرو بن قيس عن عطية العوفي عن ابن عمر في قوله: ﴿وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ﴾ قال: هو حين لا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر"(2).

والأئمة هم الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وهؤلاء هم الذين يقتدى بهم في الدين، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "والأمر بالمعروف وهو الحق الذي بعث الله به رسوله، والنهى عن المنكر وهو ما خالف ذلك من أنواع البدع والفجور، بل هو من أعظم الواجبات وأفضل الطاعات، بل هو طريق أئمة الدين ومشايخ الدين نقتدي بهم فيه قال الله تعالى: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران: 104]، وهذه الآية بها استدل المستدلون على أن شيوخ الدين يقتدى بهم في الدين، فمن لم يأمر بالمعروف وينه عن المنكر لم يكن من شيوخ الدين ولا ممن يقتدى بهم في الدين، فمن لم يأمر بالمعروف وينه عن المنكر لم يكن من شيوخ الدين ولا ممن يقتدى به"(3).

وما سنتكلم عنه في بحثنا هو على النحو التالي:

أولاً: معنى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ثانياً: الفرق بين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله.

ثالثاً: حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

رابعاً: حكمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

خامساً: فضل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأهميته.

سادساً: قواعد في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي عشر قواعد على النحو التالي:

1. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يكون ما لم يؤد إلى منكر.

2. ألا يكون الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر في الأمور المختلف فيها.

3. أن يكون المنكر ظاهراً للناس، وألا يؤدي إنكار المنكر إلى التجسس.

4. لا يترك الأمر بالمعروف بحجة عدم إجابة الناس.

5. لا يترك الأمر بالمعروف بحجة أن الآمر مقصرٌ فيما يأمر به، ولا يترك النهي عن المنكر بحجة أن الناهي مواقعٌ فيا ينهى عنه، والصواب أن يلتزم بما يدعو إليه.

6. الرفق بالمدعوين والصبر على أذاهم من لوازم الدعوة وصفات الدعاة الراشدين.

7. الدعوة إلى الله تكون على بصيرة.

8. يتعين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الإمام، وهو في حقه آكد من غيره.

9. لا يكون المرء من أهل الخير حتى يكون صالحاً في نفسه مصلحاً لغيره.

10. تعيُّن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على السلطان لا يمنع من نصحه وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر في حال التقصير.

سابعاً: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وزيادة الإيمان.

أولاً: معنى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

1- معنى المعروف والمنكر في اللغة:

أ‌- المعروف:

والمَعْرُوف: ضدُّ المُنْكَر، والعُرْفُ: ضدّ النُّكْر، يقال أَوْلاه عُرفاً أَي مَعْروفاً والمَعْروف والعارفةُ: خلاف النُّكر، والعُرْفُ والمعروف: الجُود وقيل هو اسم ما تبْذُلُه، والمَعْروف كالعُرْف وقوله تعالى: ﴿وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً﴾ [لقمان: 15] أَي مصاحباً معروفاً، قال الزجاج المعروف هنا: ما يُستحسن من الأَفعال وقوله تعالى: ﴿وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ﴾ [الطلاق: 6] قيل في التفسير المعروف: الكسْوة والدِّثار وأَن لا يقصّر الرجل في نفقة المرأَة التي تُرْضع ولده إذا كانت والدته، لأَن الوالدة أَرْأَفُ بولدها من غيرها وحقُّ كل واحد منهما أَن يأْتمر في الولد بمعروف، والعُرْفُ والعارِفة والمَعروفُ: واحد ضد النكر وهو كلُّ ما تَعْرِفه النفس من الخيْر وتَبْسَأُ به وتَطمئنّ إليه، وقد تكرَّر ذكر المعروف في الحديث، وهو اسم جامع لكل ما عُرف من طاعة اللّه والتقرّب إليه والإحسان إلى الناس، وكل ما ندَب إليه الشرعُ ونهى عنه من المُحَسَّنات والمُقَبَّحات، وهو من الصفات الغالبة أَي أَمْر مَعْروف بين الناس إذا رأَوْه لا يُنكرونه والمعروف، النَّصَفةُ وحُسْن الصُّحْبةِ مع الأَهل وغيرهم من الناس والمُنكَر ضدّ ذلك جميعه.(4)

ب‌- المنكر:

النكرة: بالتحريك الاسم من الإِنكارِ كالنفقةِ من الإِنفاق، والنكِرةُ: إِنكارك الشيء وهو نقيض المعرفة، والنكِرةُ: خلاف المعرفة، ونكِر الأمر نكِيراً وأنكره إِنكاراً ونُكراً جهله عن كراع، والصحيح أن الإِنكار المصدر، والنكر الاسم، ويقال أنكرتُ الشيء وأنا أُنكِرُه إِنكاراً ونكِرتُه، قال الأعشى:

وأنكرتني وما كان الذي نكِرت *** من الحوادثِ إِلا الشيب والصلعا

ونكِرتُ الرجل بالكسر نُكراً ونُكُوراً وأنكرتُه واستنكرتُه كله بمعنى، والإِنكارُ الاستفهام عما يُنكِرُه، والاستِنكارُ استفهامك أمراً تُنكِرُه، وقد تكرر في الحديث الإِنكارُ والمُنكرُ وهو ضد المعروف وكل ما قبحه الشرع وحرمهُ وكرهه فهو مُنكرٌ، ونكِره ينكرُه نكراً فهو منكُورٌ، واستنكره فهو مُستنكرٌ، والجمع مناكِيرُ عن سيبويه قال أبو الحسن وإِنما أذكُرُ مثل هذا الجمع لأن حكم مثله أن الجمع بالواو والنون في المذكر وبالألف والتاء في المؤنث والنكرُ والنكراءُ ممدود المُنكرُ وفي التنزيل العزيز لقد جئت شيئاً نُكراً قال وقد يحرك مثل عُسرٍ، ورجل نكُرٌ ونكِرٌ أي داهٍ، وكذلك الذي يُنكِرُ المُنكر وجمعهما أنكارٌ مثل عضُدٍ وأعضادٍ وكبِدٍ وأكباد والتنكرُ التغيرُ، والنكِيرُ اسم الإِنكارِ الذي معناه التغيير، والنكِيرُ والإِنكارُ تغيير المُنكرِ(5).

2- في الشرع:

المعروف: ما يقبل عند أهل العقول وفي الشرائع وهو الحق والصلاح؛ لأن ذلك مقبول عند انتفاء العوارض.

والمنكر: الباطل والفساد؛ لأنهما من المكروه في الجبلة عند انتفاء العوارض(6).

وقال الطبري: وأصل المعروف كل ما كان معروفاً فعله جميلاً مستحسناً غير مستقبح في أهل الإيمان بالله وإنما سميت طاعة الله معروفاً؛ لأنه مما يعرفه أهل الإيمان ولا يستنكرون فعله.

وأصل المنكر ما أنكره الله ورأوه قبيحاً فعله ولذلك سميت معصية الله منكراً؛ لأن أهل الإيمان بالله يستنكرون فعلها ويستعظمون ركوبها.(7)

وقال في موضع آخر: الأمر بالمعروف: هو كل ما أمر الله به عباده أو رسوله صلى الله عليه وسلم، والنهي عن المنكر: هو كل ما نهى الله عنه عباده أو رسوله.(8)

وقال ابن عاشور: والمراد بالمعروف: ما هو مقرر من شؤون الدين: وإما بكونه معروفا للأمة كلها: وهو ما يعلم من الدين بالضرورة فيستوي في العلم بكونه من الدين سائر الأمة، وإما بكونه معروفا لطائفة منهم وهو دقائق الأحكام فيأمر به الذين من شأنهم أن يعلموه وهم العلماء على تفوت مراتب العلم ومرتب علمائه.

والمنكر: ما شأنه أن ينكر في الدين أي أن لا يرضى بأنه من الدين، وذلك كل عمل يدخل في أمور الأمة والشريعة وهو مخالف لها فعلم أن المقصود بالمنكر الأعمال التي يراد إدخالها في شريعة المسلمين وهي مخالفة لها.(9)

3- معنى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

الأمر بالمعروف: هو الأمر بالإيمان بالله ورسوله والعمل بشرائعه.

والنهي عن المنكر: هو النهي عن الشرك بالله وتكذيب رسوله، وعن العمل بما نهى عنه.(10)

ثانياً: الفرق بين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله:

ذكر القرآن الكريم الأمر بالمعروف والدعوة إلى الله في مواضع متفرقة، وجمع بينهما في آية واحدة عند قوله تعالى: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران: 104]، والذي يظهر من كلام ابن تيمية- رحمه الله- أنه لا فرق بينهما، حيث قال: قال ابن تيمية -رحمه الله-: "وكل واحد من الأمة يجب عليه أن يقوم من الدعوة بما يقدر عليه إذا لم يقم به غيره فما قام به غيره سقط عنه وما عجز لم يطلب به، وأما ما لم يقم به غيره وهو قادر عليه فعليه أن يقوم به ولهذا يجب على هذا أن يقوم بما لا يجب على هذا وقد تقسطت الدعوة على الأمة بحسب ذلك تارة وبحسب غيره أخرى فقد يدعو هذا إلى اعتقاد الواجب وهذا إلى عملٍ ظاهرٍ واجبٍ، وهذا إلى عملٍ باطنٍ واجبٍ فتنوع الدعوة يكون في الوجوب تارة وفي الوقوع أخرى، وقد تبين بهذا أن الدعوة إلى الله تجب على كل مسلم لكنها فرض على الكفاية وإنما يجب على الرجل المعين من ذلك ما يقدر عليه إذا لم يقيم به غيره وهذا شأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتبليغ ما جاء به الرسول والجهاد في سبيل الله وتعليم الإيمان والقرآن، وقد تبين بذلك أن الدعوة نفسها أمر بالمعروف ونهي عن المنكر فإن الداعي طالب مستدع مقتض لما دعى إليه وذلك هو الأمر به إذ الأمر طلب الفعل المأمور به واستدعاء له ودعاء إليه فالدعاء إلى الله الدعاء إلى سبيله، فهو أمر بسبيله وسبيله تصديقه فيا أخبر وطاعته فيما أمر، وقد تبين أنهما واجبان على كل فردٍ من أفراد المسلمين وجوب فرض الكفاية لا وجوب فرض الأعيان كالصلوات الخمس، بل كوجوب الجهاد" (11)، وقد يقول قائل أن كلام ابن تيمية لا يدل على المساواة بينهما ولا يزيد كلامه عن كون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الدعوة إلى الله، ولا ينفي أن الدعوة أعم.

وذهب الشوكاني -رحمه الله- إلى التفريق بينهما وجعله من باب عطف الخاص الذي هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على العام التي هي الدعوة إلى الله - عز وجل- فقال: "يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر من باب عطف الخاص على العام إظهارا لشرفهما وأنهما الفردان الكاملان من الخير الذي أمر الله عباده بالدعاء إليه كما قيل في عطف جبريل وميكائيل على الملائكة"(12).

ويذكر سيد قطب- رحمه الله- الفرق بينهما من حيث السلطان وغيره فقال: "والأمر كما قلنا من قبل في الظلال يقتضي سلطة تأمر وتنهى، والأمر والنهي أمر غير الدعوة، فالدعوة بيان، والأمر والنهي سلطان، وكذلك ينبغي أن يحصل الآمرون بالمعروف الناهون عن المنكر على السلطان الذي يجعل لأمرهم ونهيهم قيمته في المجتمع"(13).

ثالثاً: حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم الواجبات الدينية التي دل على وجوبها القرآن الكريم والسنة النبوية، فقال الله تعالى: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [آل عمران: 110]، وورد الأمر بذلك في قوله تعالى: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران: 104].

"وصيغة ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ﴾ صيغة وجوب؛ لأنها أصرح في الأمر من صيغة افعلوا لأنها أصلها، فإذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر غير معلوم بينهم من قبل نزول هذه الآية فالأمر لتشريع الوجوب، وإذا كان ذلك حاصلا بينهم من قبل كما يدل عليه قوله: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾ فالأمر لتأكيد ما كانوا يفعلونه ووجوبه وفيه زيادة الأمر بالدعوة إلى الخير، وقد كان الوجوب مقرراً من قبل بآيات أخرى مثل: ﴿وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ [العصر: 3]أو بأوامر نبوية، فالأمر لتأكيد الوجوب أيضاً للدلالة على الدوام والثبات عليه مثل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ﴾ [النساء: 136]"(14).

وقد خاطب الله جميع المؤمنين وطلب فعل بعضهم فقال: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ﴾ ليدل على أنه واجب على الكل ابتداءً حتى لو تركوه رأساً أثموا جميعاً ولكن يسقط بفعل بعضهم(15).

قال الشوكاني: "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ووجوبه ثابت بالكتاب والسنة، وهو من أعظم واجبات الشريعة المطهرة، وأصل عظيم من أصولها، وركن مشيد من أركانها، وبه يكمل نظامها ويرتفع سنامها"(16).

والواجبات الدينية منها ما يكون واجب عيني على كل مسلم لا يرتفع عنه الإثم حتى يقوم به المكلف، ومنها ما يكون فرضه على المسلمين فرض كفاية، إذا قام به البعض سقط عن الآخرين، وارتفع عنهم الإثم، وإذا تركه الجميع أثموا، ومن هذا الباب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنه من فروض الكفايات، وقد يتعين على البعض حسب الأحوال والأشخاص يقول ابن تيمية: "والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فرض على كل مسلم لكنه من فروض الكفايات، فإن قام بهما من يسقط به الفرض من ولاة الأمر أو غيرهم وإلا وجب على غيرهم إن يقوم من ذلك بما يقدر عليه"(17).

وقال النووي -رحمه الله-: "ثم إن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فرض كفاية إذا قام به بعض الناس سقط الحرج عن الباقين، وإذا تركه الجميع أثم كل من تمكن منه بلا عذر ولا خوف"(18). ومع كونه من فروض الكفايات إلا أنه قد يتعين في بعض الأحوال على بعض الأشخاص.

- الأحوال التي يكون فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض عين:

الأحوال كثيرة ومتجددة ومنه على سبيل المثال:

أ- يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض عين على من تعينه الدولة الإسلامية للقيام به، ويسمى المحتسب، فهو يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر استجابة لأمر الله- عز وجل- وهو من جملة الأمة من حيث أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حقه فرض كفاية، إلا أنه صار عليه واجباً عينياً؛ لتعيينه من قبل الحاكم المسلم، فوجبت عليه طاعته؛ لأنه أمرٌ بطاعة وفيه مصلحة للأمة، يقول الماوردي: "إن فرضه متعين على المحتسب بحكم الولاية وفرضه على غيره داخل في فروض الكفاية"(19).

ب- إذا كان المعروف أو المنكر لا يعرفه إلا رجل واحد تعين عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن الجهل بالشيء وعدم الاطلاع عليه عذرٌ في شريعتنا المطهرة يرفع الإثم عن صاحبه، والعلم بالواجب يقتضي العمل بالمعلوم على جميع العالمين به، إلا أنه في الكفائيات كفائي وفي العينيات عيني، ويكون عينياً في الكفائيات إذا لم يعلمه إلا رجلٌ واحدٌ، يقول الإمام النووي: "إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية ثم إنه قد يتعين إذا كان في موضع لا يعلم به إلا هو"(20).

جـ- إذا احتاج الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى جدال واحتجاج ومناقشة علمية كان فرض عين على كل من يصلح لذلك؛ لأن من لم يقدر على ذلك وليس بمقدوره واستطاعته فلا حرج عليه، فإنه لا تكليف إلا بمقدور، قال تعالى: ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا﴾ [البقرة: 86]؛ ولأن التصدي للمنكر من قبل من لا يحسن الجدال، ولا يقدر على الاحتجاج، ولا يستطيع النقاش العلمي، من شأنه أن يضعف الحق، ويقوي الباطل؛ لقصور حجته، وقلة علمه، بل يخشى عليه التسليم للباطل والتنصل عن الحق، فتعين على المستطيع أن يقوم بما وجب عليه، والله أعلم، يقول ابن العربي المالكي: "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية...وقد يكون فرض عين إذا عرف المرء من نفسه صلاحية النظر والاستقلال بالجدال أو عرف ذلك منه"(21)، ويبين النووي هذا الأمر بأسلوب آخر فقال: " ثم إنه قد يتعين إذا كان لا يتمكن من إزالته إلا هو كمن يرى زوجته أو ولده أو خلافه على منكر أو تقصير في المعروف"(22).

د- إذا كان أحد يقدر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا يقوم به غيره فهو فرض عين عليه، يقول الإمام ابن تيمية: "وهو فرض كفاية ويصير فرض عين على القادر الذي لم يقم به غيره"(23)، فالرجل الذي يرى منكراً في بيته من قبل زوجه أو أولاده فإنه يتعين عليه تغيير ذلك المنكر، والقائم على تربية الأجيال وتنشئة الرجال يتعين عليه ما يراه من أمرٍ بمعروف ونهيٍ عن منكر، فهو محل قدوة لهم، ولو أنه لم يقم بتوجيههم وتنبيههم لظنوا أنما فعلوه صواباً، وإن لم يكن كذلك فليس ممن يقتدى به.

هـ- عند كثرة المنكرات وقلة الدعاة يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض عين، يقول سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -حفظه الله -: "فعند قلة الدعاة وعند كثرة المنكرات، وعند غلبة الجهل كحالنا اليوم تكون الدعوة فرض عين على كل واحد حسب طاقته"(24)، إذا دخل الكفار ديار المسلمين فإن جهادهم يصير فرض عين على المسلمين، وما الجهاد إلا بابٌ من أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا كثرت المنكرات وظهرت الموبقات، فإنه يتعين على جميع المسلمين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على قدر الاستطاعة كما يتعين عليهم صد العدوان في حالة مداهمة العدو ديار المسلمين، قال ابن تيمية -رحمه الله-: "وكذلك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر لا يجب على كل أحد بعينه، بل هو على الكفاية كما دل عليه القرآن، ولما كان الجهاد من تمام ذلك كان الجهاد أيضاً كذلك فإذا لم يقم به من يقوم بواجبه أثم كل قادر بحسب قدرته، إذ هو واجب على كل إنسان بحسب قدرته كما قال النبي: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فان لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الأيمان» وإذا كان كذلك فمعلوم أن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وإتمامه بالجهاد هو من أعظم المعروف الذي أمرنا به"(25).

هذه هي بعض الأحوال التي ذكر العلماء أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يكون فرض عينٍ فيها.

رابعاً: حكمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

الأمر بالمعروف له ثلاث حكم:

الأولى: إقامة حجة الله على خلقه، كما قال تعالى: ﴿رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل﴾ [النساء: 165].

الثانية: خروج الآمر من عهدة التكليف بالأمر بالمعروف، كما قال تعالى في صالحي القوم الذين اعتدى بعضهم في السبت، ﴿قَالُواْ مَعْذِرَةً إلى رَبِّكُمْ﴾ [الأعراف: 164] الآية، وقال تعالى: ﴿فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَآ أَنتَ بِمَلُومٍ﴾ [الذاريات: 54]، فدل على أنه لو لم يخرج من العهدة، لكان ملوماً.

الثالثة: رجاء النفع المأمور، كما قال تعالى: ﴿مَعْذِرَةً إلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ [الأعراف: 164]، وقال تعالى: ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذكرى تَنفَعُ المؤمنين﴾ [الذاريات: 55](26).

خامساً: فضل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأهميته:

1- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو عمل الأنبياء والرسل الذين أرسلهم الله -تعالى-، وكذالك هو عمل كل الصحابة والتابعين من القرون المشهود لهم بالخيرية قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ [النحل: 36]، وذكر الله في كتابه العزيز ذلك عن خاتم الأنبياء والمرسلين، محمد بن عبدالله الصادق الأمين، فقال الله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الأعراف: 157].

والأنبياء إنما بعثهم الله لدعوة الناس إلى الله -عز وجل- وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر؛ حتى تقوم الحجة على الناس، قال الله تعالى: ﴿رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً﴾ [النساء: 165].

وقد كان حال النبي -صلى الله عليه وسلم- هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كل أحواله، في حله وترحاله، فعن عكرمة بن عمار حدثني إياس بن سلمة بن الأكوع أن أباه حدثه: «أن رجلا أكل عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بشماله فقال: "كل بيمينك"قال: لا أستطيع قال: "لا استطعت ما منعه إلا الكبر " قال: فما رفعها إلى فيه»(27).

قال النووي -رحمه الله-: "هذا الرجل هو بسر بضم الباء وبالسين المهملة بن راعي العير بفتح العين وبالمثناة الأشجعي كذا ذكره بن منده وأبو نعيم الأصبهانى وبن ماكولا وآخرون...وفيه الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر في كل حال حتى في حال الأكل، واستحباب تعليم الآكل آداب الأكل إذا خالفه"(28).

ولذلك على المسلم أن يتأسى بهذا الخلق النبوي الكريم، وقد حث النبي-صلى الله عليه وسلم- أن يلتزموا ذلك حتى وإن كانوا جلوساً في الطرقات، وجعل من حق الطريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-: عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إياكم والجلوس في الطرقات فقالوا: ما لنا بد إنما هي مجالسنا نتحدث فيها. قال: فإذا أبيتم إلا المجالس فأعطوا الطريق حقها قالوا: وما حق الطريق؟ قال: غض البصر وكف الأذى ورد السلام وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر»(29).

2- والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم أعمال المؤمنين وأوصافهم التي ذكرها الله في القرآن الكريم فقال الله تعالى: ﴿التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [التوبة: 112]، وهذا كله مقابلة لأهل الشر والفساد من المنافقين والفساق والكفار! قال المولى -عز وجل-: ﴿الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [التوبة: 67].

أما المؤمنون الموحدون فإنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، قال الله تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة: 71].

قال القرطبي -رحمه الله-: "فجعل تعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرقاً بين المؤمنين والمنافقين، فدل على أن أخص أوصاف المؤمن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ورأسها الدعاء إلى الإسلام والقتال عليه"(30).

3- قرن الله بينه وبين الإيمان بالله واليوم الآخر في كتابه العزيز حين أثنى على من أسلم من أهل الكتاب، بأنهم يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وهذه هي الأمة القائمة، أي: المطيعة المستقيمة، قال الله تعالى: ﴿لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَـئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [آل عمران: 113- 114].

قال ابن كثير -رحمه الله-: "أي: قائمة بأمر الله مطيعة لشرعه متبعة نبي الله فهي قائمة يعني: مستقيمة"(31).

وقال الأخفش: التقدير من أهل الكتاب ذو أمة أي: ذو طريقة حسنة وأنشد: وهل يأثمن ذو أمة وهو طائع.(32)

وهذه الأمة من أهل الكتاب هم الداخلون في دين الله الإسلام لا الباقون على ما هم عليه من الكفر، وسماهم أهل كتاب بناءً على ما كانوا عليه من قبل، قال ابن عاشور -رحمه الله-: "فتلك فئة قليلة من أهل الكتاب هم الذين دخلوا في الإسلام مثل عبد الله بن سلام، وقد كانوا فئة قليلة بين قومهم فلم يكونوا جمهرة الأمة"(33).

وذلك لقوله تعالى: ﴿وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [آل عمران: 110] فلا يكتمل صلاحهم إلا بالإيمان بالله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال الغزالي -رحمه الله-: "فلم يشهد لهم بالصلاح بمجرد الإيمان بالله واليوم الآخر حتى أضاف إليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"(34).

4- إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو سبب خيرية هذه الأمة المباركة، فقال الله تعالى: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [آل عمران: 110].

اختلف المفسرون لمن الخطاب في هذه الآية الكريمة من الله -عز وجل-؟

فقال بعضهم وهو ابن عباس، وعمر بن الخطاب والسدي: هم الذين هاجروا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من مكة إلى المدينة خاصة من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وقال مجاهد: معنى ذلك: كنتم خير أمة أخرجت للناس إذا كنتم بهذه الشروط التي وصفهم جل ثناؤه بها فكان تأويل ذلك عندهم: كنتم خير أمة تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله أخرجوا للناس في زمانكم.

وقال الحسن: قد كان ما تسمع من الخير في هذه الأمة، وكان يقول: نحن آخرها وأكرمها على الله، قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية ما قال الحسن.(35)

5- بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتم التمكين في الأرض لأهله وإعلاء كلمة الله، فهو من أعظم أسباب النصر والتمكين وقد قرنه الله بالصلاة والزكاة في نعت الصالحين، فقال الله تعالى: ﴿الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾ [الحج: 41] قال الغزالي -رحمه الله-: "فقرن ذلك بالصلاة والزكاة في نعت الصالحين والمؤمنين"(36).

قال ابن عباس: المراد المهاجرون والأنصار والتابعون بإحسان، وقال قتادة: هم أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم-، وقال عكرمة: هم أهل الصلوات الخمس، وقال الحسن وأبو العالية: هم هذه الأمة إذا فتح الله عليهم أقاموا الصلاة، وقال ابن أبي نجيح: يعني الولاة، وقال الضحاك: هو شرط شرطه الله -عز وجل- على من آتاه الملك وهذا حسن(37).

ومعنى قول الضحاك أن من أراد أن يمكن الله له في الأرض فليكن من هؤلاء الموصوفين في الآية الكريمة.

6- الخير العظيم والثواب الجزيل من الله -سبحانه وتعالى- يكون للآمرين بالمعروف حيث قال الله -تعالى-: ﴿لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً﴾ [النساء: 114].

أي: لا خير في كثير من المتناجين يا محمد من الناس إلا فيمن أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس، فإن أولئك فيهم الخير(38).

وكذلك جاء في صحيح مسلم، عن أبي هريرة: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً»(39).

7- أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب لتكفير الذنوب والمعاصي عن حذيفة قال: كنا عند عمر فقال: «أيكم يحفظ حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الفتنة كما قال؟ قال: فقلت: أنا، قال: إنك لجريء، وكيف قال؟ قال: قلت: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: فتنة الرجل في أهله وماله ونفسه وولده وجاره يكفرها الصيام والصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»(40).

8- الدعاة هم المفلحون في الدنيا والآخرة، قال الله تعالى: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران: 104]، قال الزمخشري -رحمه الله-: "هم الأخصاء بالفلاح دون غيرهم"(41).

وقال ابن القيم -رحمه الله-: "فخص هؤلاء بالفلاح دون من عداهم، والداعون إلى الخير هم الداعون إلى كتاب الله وسنة رسوله لا الداعون إلى رأي فلان وفلان"(42).

9- الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر هم الذين تشملهم رحمة الله، قال تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة: 71].

"قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وأما ﴿الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ﴾ وهم المصدقون بالله ورسوله وآيات كتابه فإن صفتهم: أن بعضهم أنصار بعض وأعوانهم ﴿يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ﴾ يقول: يأمرون الناس بالإيمان بالله ورسوله وبما جاء به من عند الله ﴿وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ﴾ يقول: ويؤدون الصلاة المفروضة ﴿وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾ يقول: ويعطون الزكاة المفروضة أهلها ﴿وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ﴾ فيأتمرون لأمر الله ورسوله وينتهون عما نهياهم عنه ﴿أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ﴾ يقول: هؤلاء الذين هذه صفتهم الذين سيرحمهم الله فينقذهم من عذابه ويدخلهم جنته لا أهل النفاق والتكذيب بالله ورسوله الناهون عن المعروف الآمرون بالمنكر القابضون أيديهم عن أداء معصيته وكفره به لا يمنعه من الانتقام منه مانع ولا ينصره منه ناصر ﴿حَكِيمٌ﴾ في انتقامه منهم وفي جميع أفعاله"(43).

10- الدعاة إلى الله -سبحانه وتعالى- الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، هم أحسن الناس قولاً، كما نص الله على ذلك في كتابه العزيز فقال: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [فصلت: 33]، وقد قيل أن المقصود بذلك هو الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وقيل: هم المؤذنون الصلحاء، ولا يمنع ذلك من عموم الآية وتناولها كل من دعا إلى الله، قال ابن كثير -رحمه الله-: "وهذه عامة في كل من دعا إلى الخير وهو في نفسه مهتد ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- أولى الناس بذلك كما قال محمد بن سيرين والسدي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وقيل المراد بها المؤذنون الصلحاء....والصحيح أن الآية عامة في المؤذنين وفي غيرهم، فأما حال نزول هذه الآية فإنه لم يكن الأذان مشروعاً بالكلية؛ لأنها مكية والأذان إنما شرع بالمدينة بعد الهجرة " (44)وهذا هو ما قال به شيخ المفسرين محمد بن جرير الطبري -رحمه الله- فقال: "يقول تعالى ذكره: ومن أحسن أيها الناس قولاً ممن قال ربنا الله ثم استقام على الإيمان به والانتهاء إلى أمره ونهيه، ودعا عباد الله إلى ما قال وعمل به من ذلك"(45).

فهي عامة في كل من جمع بين هذه الثلاث: أن يكون موحداً معتقداً لدين الإسلام لقوله: ﴿وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾، عاملاً بالخير لقوله تعالى: ﴿وَعَمِلَ صَالِحاً﴾، داعياً إليه لقوله: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ﴾ وما هم إلا طبقة العالمين العاملين من أهل العدل والتوحيد الدعاة إلى دين الله(46).

قال الحسن البصري: هذا حبيب الله هذا ولي الله، أسلم لله وعمل بطاعته ودعا الخلق إليه، فهذا النوع أفضل أنواع الإنسان وأعلاهم درجة عند الله يوم القيامة(47).

11- أهل السماء والأرض يستغفرون لمن دعا إلى الله، فعن أبي أمامة الباهلي قال: ذكر لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلان أحدهما عابد والآخر عالم فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم " ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: إن الله وملائكته وأهل السموات والأرضين حتى النملة في حجرها، وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير» (48). والصلاة من الله رحمة، ومن الملائكة استغفار، ومن الغير دعاء وطلب(49).

فتبين أن فضل العالم كان لتعليمه الناس الخير، وتعليمهم الخير هو دعوتهم إلى الله وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، كما قال تعالى: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران: 104] ولا أعظم خيراً من تعليم العباد ما ينفعهم في الدنيا وينجيهم في الآخرة.

قال محمد عبد الرحمن بن عبد الرحيم المباركفوري: "قيل: أراد بالخير هنا: علم الدين وما به نجاة الرجل، ولم يطلق المعلم؛ ليعلم أن استحقاق الدعاء لأجل تعليم علم موصل إلى الخير"(50).

وقال ابن القيم -رحمه الله-: "فإنه لما كان العالم سبباً في حصول العلم الذي به نجاة النفوس من أنواع المهلكات، وكان سعيه مقصوراً على هذا وكانت نجاة العباد على يديه، جوزي من جنس عمله وجعل من في السموات والأرض ساعياً في نجاته من أسباب الهلكات باستغفارهم له"(51).

12-الدعاة لا تنقطع أجورهم، عن أبي هريرة: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً»(52).

قال النووي -رحمه الله-: "من دعا إلى هدى كان له مثل أجور متابعيه، أو إلى ضلالة كان عليه مثل آثام تابعيه، سواء كان ذلك الهدي والضلالة هو الذي ابتدأه أم كان مسبوقا إليه وسواء كان ذلك تعليم علم أو عبادة أو أدب أو غير ذلك، قوله -صلى الله عليه وسلم-: «فعمل بها» بعده معناه إن سنها سواء كان العمل في حياته أو بعد موته".

قال محمد شمس الحق العظيم آبادي أبو الطيب: "أي: إلى ما يهتدى به من الأعمال الصالحة كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، إنما استحق الداعي إلى الهدى ذلك الأجر، لكون الدعاء إلى الهدى خصلة من خصال الأنبياء"(54).

والدعاة يتفاوتون في استجابة الناس لهم، ومن توفيق الله للعبد كثرة أتباعه والعمل بدعوته حتى يحصل على مثل أجورهم، قال ابن تيمية -رحمه الله-:ومن كرامة الأنبياء والصالحين أن يتبع ما دعوا إليه من العمل الصالح؛ ليكثر أجرهم بكثرة أجور من تبعهم، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيء»(55).

13-الدعاة لهم في هدايتهم لغيرهم ما هو خير من الدنيا وما فيها، كما في قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لعلي-رضي الله عنه-: «فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من أن يكون لك حمر النعم»(56).

14- النجاة من العذاب والهلاك وامتناع المصائب والعقوبات الدنيوية فقد قال الله تعالى: ﴿وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [الأنفال: 25] يعني يهلك فيها الصالح والطالح، ثم يبعث كلٌ حسب نيته كما ورد في السنة النبوية، عن زينب بنت جحش -رضي الله عنها-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل عليها فزعا يقول: «لا إله إلا الله ويلٌ للعرب من شر اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه»، وحلق بإصبعه الإبهام والتي تليها، قالت زينب بنت جحش: فقلت: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: «نعم إذا كثر الخبث»(57)، والخبث: المعاصي مطلقاً، قال النووي -رحمه الله-: "وفسره الجمهور بالفسوق والفجور، وقيل: المراد الزنى خاصة، وقيل أولاد الزنى، والظاهر أنه المعاصي مطلقا"(58).

وقال المناوي -رحمه الله-: "فهو فيمن لم يظلم ولم يشارك في فعل الخبائث، لكنه اطلع ولم ينكر مع القدرة"(59).

قال ابن العربي: فيه البيان بأن الخير يهلك بهلاك الشرير إذا لم يغير عليه خبثه، وكذلك إذا غير عليه لكن حيث لا يجدي ذلك ويصر الشرير على عمله السيئ ويفشو ذلك ويكثر حتى يعم الفساد فيهلك حينئذ القليل والكثير، ثم يحشر كل أحد على نيته(60).

وعن حذيفة عن اليمان: عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم»(61).

15- النجاة مما حل بالأمم السابقة من لعنة الله على لسان أنبيائهم كما قال الله تعالى: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ﴾ [المائدة: 78- 79].

16- جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- من أعظم القربات إلى الله وأجل العبادات، بل جعل مدار الدين كله على النصيحة والتناصح بين الناس والتوجيه بينهم إلى الخير، فقال: عن تميم الداري أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «الدين النصيحة قلنا لمن؟ قال لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم»(62).

17- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر طريق الرفعة في الدنيا والآخرة، قال تعالى: ﴿وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ﴾ [الزخرف: 32]، قال القرطبي: "ي: فاضلنا بينهم فمن فاضل ومفضول ورئيس ومرءوس قاله مقاتل: وقيل: بالحرية والرق فبعضهم مالك وبعضهم مملوك، وقيل: بالغني والفقر فبعضهم غني وبعضهم فقير، وقيل: بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"(63).

سادساً: قواعد في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

1- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يكون ما لم يؤد إلى منكر:

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الفرائض الدينية التي شرعها ديننا الإسلامي، والإسلام جاء لتحقيق المصالح ودرء المفاسد، وما شرع الأمر بالمعروف إلا تحقيقاً للمصالح ودرءاً للمفاسد، فإذا كان الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر يؤدي إلى منكر وفساد، فيترك لذلك المنكر ولذلك الفساد، يقول ابن تيمية- رحمه الله-: " الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وإتمامه بالجهاد هو من أعظم المعروف الذي أمرنا به، ولهذا قيل ليكن أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر غير منكر،وإذا كان هو من أعظم الواجبات والمستحبات فالواجبات والمستحبات لابد أن تكون المصلحة فيها راجحة على المفسدة، إذ بهذا بعثت الرسل ونزلت الكتب والله لا يحب الفساد بل كل ما أمر الله به فهو صلاح، وقد أثنى الله على الصلاح والمصلحين والذين آمنوا وعملوا الصالحات، وذم المفسدين في غير موضع، فحيث كانت مفسدة الأمر والنهى أعظم من مصلحته لم تكن مما أمر الله(64).

وقد سأل أبو مطيع الحكم بن عبدالله أبا حنيفة فقال له: ما تقول فيمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فيتبعه على ذلك أناسٌ فيخرج على الجماعة هل ترى ذلك؟ قال: لا، قلت: ولم وقد أمر الله ورسوله بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وهو فريضة واجبة؟ قال: هو كذلك لكن ما يفسدون أكثر مما يصلحون من سفك الدماء واستحلال الحرام.(65)

ويؤكد ذلك ابن تيمية مبيناً بالأمثلة قائلاً: "و المقام الثاني أن يفرق بين ما يفعل في الإنسان ويأمر به ويبيحه وبين ما يسكت عن نهي غيره عنه وتحريمه عليه، فإذا كان من المحرمات ما لو نهى عنه حصل ما هو أشد تحريماً لم ينه عنه ولم يبحه أيضاً؛ ولهذا لا يجوز إنكار المنكر بما هو أنكر منه؛ ولهذا حرم الخروج على ولاة الأمر بالسيف لأجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن ما يحصل بذلك من فعل المحرمات وترك واجب أعظم مما يحصل بفعلهم المنكر والذنوب، وإذا كان قومٌ على بدعة أو فجور ولو نهوا عن ذلك وقع بسبب ذلك شر أعظم مما هم عليه من ذلك ولم يمكن منعهم منه ولم يحصل بالنهي مصلحة راجحة لم ينهوا عنه"(66).

2- ألا يكون الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر في الأمور المختلف فيها.

فالمؤمن يقف عند حدود الله ويلزم أمر الله -عز وجل-، وأمر رسوله-صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً﴾ [الأحزاب: 36].

ومما لا شك فيه أن أفهام الناس تتفاوت وتختلف من شخص لآخر، وقد يختلف العلماء في بعض المسائل الشرعية المتفرعة عن أصول الشريعة المطهرة، وكل يرى أن ما قاله وذهب إليه هو الصواب وله دليل على ما ذهب إليه، ومن الأسباب التي تجعل العلماء المجتهدين يختلفون:

1- اختلاف القراءات المتواترة المروية عن النبي- صلى الله عليه وسلم- ن جبريل عن رب العزة-سبحانه وتعالى-، ومثاله الاختلاف في فرض القدمين في الوضوء هل هو الغسل أم المسح.

2- عدم الاطلاع على الحديث يجعل العالم يقول قولاً مغايراً لمن علم بالحديث الوارد عن النبي- صلى الله عليه وسلم-ومثاله اختلافهم في صحة صيام من أصبح جنباً.

3- الشك في ثبوت الحديث، ومثاله اختلافهم في نفقة المبتوتة وسكناها، فكان عمر يرى أن لها النفقة والسكنى لعموم الآية الكريمة في أول سورة الطلاق، ولم يعمل بحديث فاطمة بنت قيس الدال على عدم وجوب السكنى والنفقة؛ لأنه لم يطمئن إلى صحة ما بلغه.

4- الاختلاف في فهم النص وتفسيره، مثل اختلافهم في زكاة الخليطين فيما لو كان كل واحد منهما يملك دون النصاب.

5- الاشتراك في اللفظ العربي من حيث الدلالة على المعنى، ومن ذلك اختلافهم في عدة الحائض المطلقة؛ لاشتراك لفظ القرء، فهو في لغة العرب بمعنى الطهر، وبمعنى الحيض.

6- تعارض الأدلة الشرعية فيما يتراءى لنا، ومنه اختلافهم في حكم نكاح المحرم بالحج أو العمرة، وذلك لنهي النبي-صلى الله عليه وسلم- عن ذلك، وزواجه بميمونة وهو محرم.

7- عدم وجود نص في المسألة، وبالأخص المسائل المتجددة، ومنه اختلافهم في قتل الجماعة بالواحد، ومن الأمثلة المعاصرة حكم العمليات الاستشهادية في فلسطين.

8- الاختلاف في القواعد الأصولية، مثل حمل المطلق على المقيد، وهل يقتضي الأمر الندب أم الوجوب، وهل يقتضي الفور أم التراخي، وحكم العمل بخبر الواحد إذا خالف القياس، والقواعد كثيرة وبسبب اختلاف العلماء في هذه القواعد بين قائل بها ومعارض للاستدلال بها وقع الاختلاف بينهم.(67)

وبهذا يتبين أن اختلافهم لم يكن إلا عن اجتهاد ونظر من أجل الوصول إلى الحكم الشرعي في المسألة، ولذلك المخطئ منهم له أجر، والمصيب له أجران، يقول النووي- رحمه الله-: "ثم العلماء إنما ينكرون ما أجمع عليه أما المختلف فيه فلا إنكار فيه؛ لأن على أحد المذهبين كل مجتهد مصيب وهذا هو المختار عند كثيرين من المحققين أو أكثرهم، وعلى المذهب الآخر المصيب واحد والمخطئ غير متعين لنا والإثم مرفوع عنه، لكن إن ندبه على جهة النصيحة إلى الخروج من الخلاف فهو حسن محبوب مندوب إلى فعله برفق، فان العلماء متفقون على الحث على الخروج من الخلاف إذا لم يلزم منه إخلال بسنة أو وقوع في خلاف آخر"(68).

ويبين ابن تيمية -رحمه الله- ذلك موضحاً بالأمثلة الفقهية المختلف فيها فيقول: " فما دخل في هذا الباب مما نهى الله عنه ورسوله من التعصب والتفرق والاختلاف والتكلم بغير علم فإنه يجب النهي عنه فليس لأحد أن يدخل فيما نهى الله عنه ورسوله، وأما من ترجح عنده فضل إمام على إمام أو شيخ على شيخ بحسب اجتهاده، كما تنازع المسلمون أيهما أفضل الترجيع في الأذان أو تركه، أو إفراد الإقامة أو إثنائها، وصلاة الفجر بغلس أو الإسفار بها، والقنوت في الفجر أو تركه، والجهر بالتسمية أو المخافتة بها، أو ترك قراءتها ونحو ذلك، فهذه مسائل الاجتهاد التي تنازع فيها السلف والأئمة فكل منهم أقر الآخر على اجتهاده، من كان فيها أصاب الحق فله أجران، ومن كان قد اجتهد فأخطأ فله أجر وخطؤه مغفور له، فمن ترجح عنده تقليد الشافعي لم ينكر على من ترجح عنده تقليد مالك ومن ترجح عنده تقليد أحمد لم ينكر على من ترجح عنده تقليد الشافعي ونحو ذلك(69).

3-أن يكون المنكر ظاهراً للناس، وألا يؤدي إنكار المنكر إلى التجسس.

اعتنى الإسلام بالأخلاق الكريمة ودعا إليها، ونهى عن الأخلاق الرذيلة وحذر منها، ومن تلك المنهيات: التجسس على الآخرين والتطلع لمعرفة عورات الناس، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ﴾ [الحجرات: 12].

وعن أبي هريرة: عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تباغضوا، وكونوا عباد الله إخوانا»(70).

ومن ينكر على الناس ويأمرهم بالمعروف الأولى له أن يكون متمسكاً بأخلاق الإسلام، بعيداً عن التجسس والاطلاع على عورات المسلمين والسعي لفضحهم والتشهير بهم، وما كان ذلك هو الحكمة من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمقاصد النبيلة تتحقق بالوسائل الشريفة، قال النووي -رحمه الله-: "وليس للآمر بالمعروف البحث والتنقير والتجسس واقتحام الدور بالظنون، بل إن عثر على منكر غيره جهده هذا كلام إمام الحرمين، وقال أقضى القضاة الماوردي: ليس للمحتسب أن يبحث عما لم يظهر من المحرمات فان غلب على الظن استسرار قوم بها لأمارة وآثار ظهرت فذلك ضربان أحدهما: أن يكون ذلك في انتهاك حرمة يفوت استدراكها مثل أن يخبره من يثق بصدقه أن رجلاً خلا برجل؛ ليقتله أو بامرأة ليزنى بها فيجوز له في مثل هذا الحال أن يتجسس ويقدم على الكشف والبحث حذراً من فوات مالا يستدرك، وكذا لو عرف ذلك غير المحتسب من المتطوعة جاز لهم الأقدام على الكشف والإنكار.

الضرب الثاني: ما قصر عن هذه الرتبة فلا يجوز التجسس عليه ولا كشف الأستار عنه فإن سمع أصوات الملاهي المنكرة من دار أنكرها خارج الدار لم يهجم عليها بالدخول، لأن المنكر ظاهر وليس عليه أن يكشف عن الباطن"(71).

4- لا يترك الأمر بالمعروف بحجة عدم إجابة الناس.

قال العلماء -رضي الله عنهم-: ولا يسقط عن المكلف الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر؛ لكونه لا يفيد في ظنه، بل يجب عليه فعله فإن الذكرى تنفع المؤمنين، وقد قدمنا أن الذي عليه الأمر والنهى لا القبول، وكما قال الله عز وجل: ﴿مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ﴾ [المائدة: 99]،(72).

والآيات الدالة على ذلك في كتاب الله كثير التي تبين أن المأمور به هو البلاغ والإجابة ليست إلى الداعي، فالله يهدي من يشاء، قال الله تعالى: ﴿وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ [آل عمران: 20]، وقال: ﴿فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ﴾ [المائدة: 92]، وخاطبهم الله أنما على الرسول إلا البلاغ والله يعلم ما يبدون وما يكتمون فيعاقبهم على جميع ذلك، فقال: ﴿مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ﴾ [المائدة: 99].

وإذا كانت الاستجابة ليست إلى الدعاة فإن الله يتولى الحساب الذي يترتب عليه الثواب لمن أحسن والعقاب لمن أساء، فقال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ﴾ [الرعد: 40]، وقد تكرر ذلك في كتاب الله في مواضع متعددة بأساليب متنوعة، وهي قوله تعالى: ﴿فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ﴾ [النحل: 35]، وقوله: ﴿إِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ﴾ [النحل: 82]، ﴿وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾ [النور: 54]، ﴿إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ﴾ [الشورى: 48]، ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾ [التغابن: 12].

5- لا يترك الأمر بالمعروف بحجة أن الآمر مقصرٌ فيما يأمر به، ولا يترك النهي عن المنكر بحجة أن الناهي واقعٌ فيما ينهى عنه، والصواب أن يلتزم بما يدعو إليه.

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب، وأن يعمل الآمر بالمعروف بما يأمر به وينتهي الناهي عما ينهى عنه واجبٌ أيضاً، وإذا لم يقم بواجب العمل لا يسقط عنه الأمر بالمعروف، وإذا لم ينته عن المنكر فإنه لا يسقط عنه النهي عن المنكر المتلبس به، فالواجبان لا يسقط أحدهما بترك الآخر، قال النووي: "قال العلماء: ولا يشترط في الآمر والناهي أن يكون كامل الحال ممتثلاً ما يأمر به مجتنباً ما ينهى عنه، بل عليه الأمر وان كان مخلاً بما يأمر به، والنهي وان كان متلبساً بما ينهى عنه؛ فإنه يجب عليه شيئان: أن يأمر نفسه وينهاها، ويأمر غيره وينهاه، فإذا أخل بأحدهما كيف يباح له الإخلال بالآخر"(73).

يقول ابن حجر-رحمه الله-: "وقال غيره: يجب الأمر بالمعروف لمن قدر عليه ولم يخف على نفسه منه ضرراً ولو كان الآمر متلبساً بالمعصية؛ لأنه في الجملة يؤجر على الأمر بالمعروف، ولا سيما إن كان مطاعاً، وأما إثمه الخاص به فقد يغفره الله له وقد يؤاخذه به، وأما من قال لا يأمر بالمعروف إلا من ليست فيه وصمة، فان أراد أنه الأولى فجيد وإلا فيستلزم سد باب الأمر إذا لم يكن هناك غيره ثم قال الطبري: فان قيل كيف صار المأمورون بالمعروف في حديث أسامة المذكور في النار والجواب: أنهم لم يمتثلوا ما أمروا به فعذبوا بمعصيتهم، وعذب أميرهم بكونه كان يفعل ما ينهاهم عنه"(74).

وإنما قلنا والصواب أن يلتزم ما يدعو إليه؛ لأنه إن لم يلزمه استحق الوعيد المذكور في الكتاب والسنة، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾ [الصف: 2-3]، وقال تعالى: ﴿ َتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: 44]، وقال تعالى على لسان شعيب: ﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ [هود: 88].

قال جندب قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «مثل العالم الذي يعلم الناس الخير وينسى نفسه كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه»(75).

وعن أبي وائل قال: قيل لأسامة: لو أتيت فلاناً فكلمته؟ قال: إنكم لترون أني لا أكلمه إلا أسمعكم إني أكلمه في السر دون أن أفتح باباً لا أكون من فتحه ولا أقول لرجل إن كان علي أميراً إنه خير الناس بعد شيء سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قالوا: وما سمعته يقول؟ قال سمعته يقول: «يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه في النار، فيدور كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع أهل النار عليه فيقولون أي فلاناً ما شأنك؟ أليس كنت تأمرننا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه»(76).

وعن أنس بن مالك قال: قال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «رأيت ليلة أسري بي رجالاً تقرض شفاههم بمقارض من نار فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ فقال: الخطباء من أمتك يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون»(77).

قال ابن كثير -رحمه الله-: "قال الله تعالى: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ والغرض: أن الله تعالى ذمهم على هذا الصنيع ونبههم على خطئهم في حق أنفسهم حيث كانوا يأمرون بالخير ولا يفعلونه، وليس المراد ذمهم على أمرهم بالبر مع تركهم له، فإن الأمر بالمعروف معروف وهو واجب على العالم، ولكن الواجب والأولى بالعالم أن يفعله مع من أمرهم به ولا يتخلف عنهم، كما قال شعيب عليه السلام: ﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ [هود: 88]. فكلٌ من الأمر بالمعروف وفعله واجب لا يسقط أحدهما بترك الآخر على أصح قولي العلماء من السلف والخلف، وذهب بعضهم إلى أن مرتكب المعاصي لا ينهى غيره عنها وهذا ضعيف وأضعف منه تمسكهم بهذه الآية فإنه لا حجة لهم فيها والصحيح: أن العالم يأمر بالمعروف وإن لم يفعله وينهى عن المنكر وإن ارتكبه قال مالك عن ربيعة: سمعت سعيد بن جبير يقول: لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء ما أمر أحد بمعروف ولا نهى عن منكر، قال مالك: وصدق من ذا الذي ليس فيه شيء؟ قلت: لكنه والحالة هذه مذموم على ترك الطاعة وفعله المعصية؛ لعلمه بها ومخالفته على بصيرة فإنه ليس من يعلم كمن لا يعلم ولهذا جاءت الأحاديث في الوعيد على ذلك"(78).

يقول الغزالي -رحمه الله-: "قال الحسن البصري رحمه الله تعالى: إذا كنت ممن يأمر بالمعروف فكن من آخذ الناس به وإلا هلكت، وقد قيل:

لا تلم المرء على فعله *** وأنت منسوب إلى مثله

من ذم شيئا وأتى مثله *** فإنما يزرى على عقله

ولسنا نعني بهذا أن الأمر بالمعروف يصير ممنوعاً بالفسق، ولكن يسقط أثره عن القلوب بظهور فسقه"(79).

6- لا يكون المرء من أهل الخير حتى يكون صالحاً في نفسه مصلحاً لغيره.

كما أنه لا يسقط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عمن لا يلتزم به، فكذلك لا يكفي أن يكون الإنسان صالحا في نفسه غير مصلح لغيره، وكلا الأمرين خطأ وبعد عن الصواب، فالواجب على المسلم أن يصلح نفسه ويدعوا غيره، فالله يقول: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾ [هود: 117].

وقال ابن كثيرٍ -رحمه الله-: "يقول عز وجل: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّه﴾ [فصلت: 33]أي دعا عباد الله إليه ﴿وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ أي: هو في نفسه مهتدٍ بما يقوله، فنفعه لنفسه ولغيره لازم ومتعد، وليس هو من الذين يأمرون بالمعروف ولا يأتونه وينهون عن المنكر ويأتونه، بل يأتمر بالخير ويترك الشر ويدعو الخلق إلى الخالق تبارك وتعالى"(80).

"وهذا معنى قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [المائدة: 105]. والاهتداء: إنما يتم بأداء الواجب فإذا قام المسلم بما يجب عليه من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر كما قام بغيره من الواجبات لم يضره ضلال الضلال، وذلك يكون تارة بالقلب وتارة باللسان وتارة باليد، فأما القلب فيجب بكل حال إذ لا ضرر في فعله ومن لم يفعله فليس هو بمؤمن كما قال النبي وذلك أدنى أو أضعف الإيمان وقال ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل، وقيل لابن مسعود: من ميت الأحياء؟ فقال: الذي لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، وهذا هو المفتون الموصوف في حديث حذيفة بن اليمان، وهنا يغلط فريقان من الناس فريق يترك ما يجب من الأمر والنهى تأويلاً لهذه الآية كما قال أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- في خطبته: إنكم تقرؤون هذه الآية: ﴿عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾ وإنكم تضعونها في غير موضعها واني سمعت النبي يقول: «إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه»(81)"(82).

وقال تعالى: ﴿لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ﴾ [المائدة: 63]، قال ابن كثير -رحمه الله-: "وقوله تعالى: ﴿لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ﴾ [المائدة: 63] يعني هلا كان ينهاهم الربانيون والأحبار عن تعاطي ذلك والربانيون هم العلماء العمال أرباب الولايات عليهم والأحبار هم العلماء فقط ﴿لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ﴾ يعني من تركهم ذلك قاله علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: قال لهؤلاء حين لم ينهوا ولهؤلاء حين علموا"(83).

وقال القرطبي -رحمه الله: "ودلت الآية على أن تارك النهي عن المنكر كمرتكب المنكر، فالآية توبيخ للعلماء في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"(84).

وهذه سنة الله في عباده أنه يعمهم بعذابه إن لم يأخذوا على يد الظالم ويقوموا بردعه وزجره عن غيه وظلمه، والنبي-صلى الله عليه وسلم يضرب لنا مثلاً رائعاً يبين فيه أن مصير من لم يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ومآله إلى الهلاك في حال قدرته على ذلك، فقال: «مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا»(85).

قال القرطبي: "ففي هذا الحديث تعذيب العامة بذنوب الخاصة، وفيه استحقاق العقوبة بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال علماؤنا: فالفتنة إذا عملت هلك الكل وذلك عند ظهور المعاصي وانتشار المنكر وعدم التغيير، وإذا لم تغير وجب على المؤمنين المنكرين لها بقلوبهم هجران تلك البلدة والهرب منها وهكذا كان الحكم فيمن كان قبلنا من الأمم كما في قصة السبت حين هجروا العاصين وقالوا: لا نساكنكم وبهذا قال السلف -رضي الله عنهم-"(86).

وقد دل القرآن أن العامة يعذبون بذنوب الخاصة إن لم ينهوهم، قال تعالى: ﴿وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [الأنفال: 25].

قال الشوكاني -رحمه الله-: "ومن شد فيمكن حمل ما في هذه الآية على العقوبات التي تكون بتسليط العباد بعضهم على بعض، ويمكن أن تكون هذه الآية خاصة بالعقوبات العامة والله أعلم، ويمكن أن يقال: إن الذين لم يظلموا قد تسببوا للعقوبة بأسباب كترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فتكون الإصابة المتعدية للظالم إلى غيره مختصة بمن ترك ما يجب عليه عند ظهور الظلم"(87).

وقد قال الله تعالى: ﴿واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ * فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾ [الأعراف: 163-166]، وقال تعالى: ﴿فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ﴾ [هود: 116].

"فإن قيل: فقد قال الله تعالى: ﴿وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ [الأنعام: 164] ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾ [المدّثر: 38] ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ [البقرة: 286] وهذا يوجب ألا يؤخذ أحد بذنب أحد وإنما تتعلق العقوبة بصاحب الذنب؟ فالجواب أن الناس إذا تظاهروا بالمنكر فمن الفرض على كل من رآه أن يغيره فإذا سكت عليه فكلهم عاص هذا بفعله وهذا برضاه وقد جعل الله في حكمه وحكمته الراضي بمنزلة العامل فانتظم في العقوبة قاله ابن العربي: وهو مضمون الأحاديث كما ذكرنا ومقصود الآية: واتقوا فتنة تتعدى الظالم فتصيب الصالح والطالح"(88).

7- الرفق بالمدعوين والصبر على أذاهم، من لوازم الدعوة وصفات الدعاة الراشدين.

من يدعو الناس إلى الله فإنه يبحث عن أقرب الوسائل، وأحسن الطرق التي تجعل المدعو يلين للحق ويستجيب لداعي الإيمان، فالرفق بالمدعو بما يقربه إلى الله، واجتناب الفظاظة والغلظة التي تنفر المدعو واجب على الداعي أثناء القيام بدعوته؛ لأن الله أمر بذلك فقال: ﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ [النحل: 125].

يقول ابن كثير في قوله تعالى: ﴿وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ أي: "من احتاج منهم إلى مناظرة وجدال فليكن بالوجه الحسن برفق ولين وحسن خطاب كقوله تعالى: ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ [العنكبوت: 46]"(89).

والله سبحانه يقول لموسى وأخيه هارون عند ذهابهم إلى فرعون لدعوته إلى الإيمان: ﴿فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾ [طه: 44].

قال ابن القيم -رحمه الله-: "فأمر تعالى أن يلينا القول لأعظم أعدائه وأشدهم كفراً وأعتاهم عليه؛ لئلا يكون إغلاظ القول له مع أنه حقيقي به ذريعة إلى تنفيره وعدم صبره لقيام الحجة فنهاهما عن الجائز؛ لئلا يترتب عليه ما هو أكره إليه"(90).

ويقول الغزالي -رحمه الله-: "ويدل على وجوب الرفق ما استدل به المأمون إذ وعظه واعظٌ وعنف له في القول فقال: يا رجل ارفق فقد بعث الله من هو خير منك إلى من هو شر مني وأمره بالرفق فقال تعالى: ﴿فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾ فليكن اقتداء المحتسب في الرفق بالأنبياء -صلوات الله عليهم-"(91).

فينبغي للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يرفق ليكون أقرب إلى تحصيل المطلوب فقد قال الإمام الشافعي -رحمه الله-: من وعظ أخاه سراً فقد نصحه وزانه، ومن وعظه علانيةً فقد فضحه وشانه.(92)

وإليك جملة من الوقائع في باب الرفق بالمدعو حتى يتبين عظيم أثر الرفق بمن تدعوه، وقوة هذا الخلق الكريم في تغيير النفوس، وأول ما نذكره هو بيان لما كان عليه الرسول-صلى الله عليه وسلم- من الرفق، وهو إمام المرسلين، وقدوة الداعين إلى الله رب العالمين.

عن أبي أمامة: أن رجلا أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله ائذن لي في الزنا فصاح به الناس فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أقروه "فدنا حتى جلس بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أتحبه لأمك" قال: لا قال: "وكذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم" قال: "أتحبه لابنتك؟ "قال: لا قال: "وكذلك الناس لا يحبونه لبناتهم"قال: "أتحبه لأختك؟" قال: لا قال: " وكذلك الناس لا يحبونه لأخواتهم" فوضع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يده على صدره فقال: "اللهم كفر ذنبه وطهر قلبه وحصن فرجهذ»(93).

ومن هذا الباب قصة الأعرابي الذي بال في المسجد، ورفق النبي-صلى الله عليه وسلم- بأهل الطائف الذين سلطوا عليه سفهاءهم ورجموه حتى سال الدم من قدمه الشريف بأبي وأمي هو-صلى الله عليه وسلم- وكان من أشد الأمر عليه ومع ذلك كان رفيقاً بهم أعظم الرفق.

فعن عائشة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- أنها قالت لرسول الله-صلى الله عليه وسلم-: يا رسول الله هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ فقال: " لقد لقيت من قومك وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني فقال إن الله -عز وجل- قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، قال فناداني ملك الجبال وسلم علي ثم قال: يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك وأنا ملك الجبال وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك فما شئت؟ إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً»(94).

وهذا هو حال النبي-صلى الله عليه وسلم- في دعوته للناس، والرفق من تمام البصيرة التي أمر الله نبيه بإعلانها فقال: ﴿قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [يوسف: 108] وأتباع النبي-صلى الله عليه وسلم- في هذه الدعوة العظيمة، يجب أن يلتزموا ما عمله النبي في دعوته من الرفق، وقد كان الصحابة والتابعين لهم بإحسان على هذا المنوال من الرفق في دعوتهم، وإليك بعضاً من مواقفهم والتزامهم الرفق أثناء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

قيل للفضيل بن عياض -رحمه الله-: إن سفيان بن عيينة قبل جوائز السلطان، فقال الفضيل: ما أخذ منهم إلا دون حقه، ثم خلا به وعذله ووبخه، فقال سفيان: يا أبا علي إن لم نكن من الصالحين فإنا لنحب الصالحين.

وقال حماد بن سلمة: إن صلة بن أشيم مر عليه رجلٌ قد أسبل إزاره فهم أصحابه أن يأخذوه بشدة، فقال: دعوني أنا أكفيكم، فقال: يا ابن أخي إن لي إليك حاجة، قال: وما حاجتك يا عم؟ قال: أحب أن ترفع من إزارك،فقال: نعم وكرامة فرفع إزاره، فقال لأصحابه: لو أخذتموه بشدة لقال: لا ولا كرامة وشتمكم.

وقال محمد بن زكريا الغلابي: شهدت عبد الله بن محمد بن عائشة ليلة وقد خرج من المسجد بعد المغرب يريد منزله وإذا في طريقه غلام من قريش سكران وقد قبض على امرأة فجذبها فاستغاثت فاجتمع الناس عليه يضربونه فنظر إليه ابن عائشة فعرفه فقال للناس: تنحوا عن ابن أخي، ثم قال: إلي يا ابن أخي فاستحى الغلام فجاء إليه فضمه إلى نفسه ثم قال له: امض معي فمضى معه حتى صار إلى منزله فأدخله الدار، وقال لبعض غلمانه: بيته عندك فإذا أفاق من سكره فأعلمه بما كان منه ولا تدعه ينصرف حتى تأتيني به؟ فلما أفاق ذكر له ما جرى فاستحيا منه وبكى وهم بالانصراف فقال الغلام: قد أمر أن تأتيه فأدخله عليه فقال له أما استحييت لنفسك أما استحييت لشرفك أما ترى من ولدك فاتق الله وانزع عما أنت فيه، فبكى الغلام منكساً رأسه ثم رفع رأسه وقال عاهدت الله تعالى عهداً يسألني عنه يوم القيامة أني لا أعود لشرب النبيذ ولا لشيء مما كنت فيه وأنا تائب فقال: ادن مني فقبل رأسه وقال: أحسنت يا بني، فكان الغلام بعد ذلك يلزمه ويكتب عنه الحديث وكان ذلك ببركة رفقه ثم قال إن الناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويكون معروفهم منكراً فعليكم بالرفق في جميع أموركم تنالون به ما تطلبون.

وعن الفتح بن شخرف قال: تعلق رجل بامرأة وتعرض لها وبيده سكين لا يدنو منه أحد إلا عقره، وكان الرجل شديد البدن، فبينا الناس كذلك والمرأة تصيح في يده إذ مر بشر بن الحارث فدنا منه وحك كتفه بكتف الرجل فوقع الرجل على الأرض ومشى بشر فدنوا من الرجل وهو يترشح عرقاً كثيراً ومضت المرأة لحالها فسألوه: ما حالك؟ فقال ما أدري ولكن حاكني شيخ وقال لي إن الله -عز وجل- ناظر إليك وإلى ما تعمل، فضعفت لقوله قدماي وهبته هيبة شديدة ولا أدري من ذلك الرجل، فقالوا له: هو بشر بن الحارث، فقال: واسوأتاه كيف ينظر إلى بعد اليوم.(95)

إن من البلية أن ترى من جعل من نفسه داعية إلى الله -عز وجل- قد عرف بالشدة والغلظة والفظاظة، فإذا ما سمع عن فلانٍ من الناس وصفه بالفسق، وإذا ما سمع عن آخر قال ذاك العبد العاصي المقصر المفرط في جنب الله، وإذا ما رأى عاصياً لله بدلاً من وعظه ونصحه ابتعد عنه ونظر إليه شزراً، فلا تراه إلا عابس الوجه، مقطب الجبين، ما عرف أن تبسمه في وجه أخيه صدقة، وأن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه، يبصر القذى في عين أخيه ويدع الجذع في عينه، غليظٌ مع أهله وأولاده، فظٌ مع إخوانه وجيرانه، فهل هذا ممن تأسى بنبي الرحمة ورسول العالمين محمد بن عبد الله الصادق الأمين، عن عروة بن الزبير أن عائشة -رضي الله عنها- زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- قالت: دخل رهط من اليهود على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: السام عليكم، قالت عائشة: ففهمتها فقلت وعليكم السام واللعنة، قالت: فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «مهلا يا عائشة إن الله يحب الرفق في الأمر كله» فقلت: يا رسول الله أو لم تسمع ما قالوا؟ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «قد قلت وعليكم»(96)، مع أن هؤلاء اليهود زادوا إلى كفرهم كفراً بسب النبي -صلى الله عليه وسلم- ومع ذلك أوصى النبي-صلى الله عليه وسلم-بالرفق بهم- عليهم لعائن الله-؛ وكلام النبي لعائشة-رضي الله عنها- من باب النهي عن لعن شخص بعينه إلا بشروطه المعلومة عند العلماء، ومع سفالة هذه الشرذمة من اليهود ونذالتهم إلا أن الرسول دعا عائشة إلى الرفق معهم؛ رجاء أن ينتهوا عن غيهم وبغيهم، ولأن المؤمن يترفع عن الكلام البذيء.

وعن جرير: عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «من يحرم الرفق يحرم الخير»(97).

وعن عائشة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «يا عائشة إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على ما سواه»(98).

وعنها أيضاً عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه»(99).

قال ابن تيمية -رحمه الله-: "والقيام بالوجبات من الدعوة الواجبة وغيرها يحتاج إلى شروط يقام بها كما جاء في الحديث، ينبغي لمن أمر بالمعروف ونهى عن المنكر أن يكون فقيهاً فيما يأمر به فقيهاً فيما ينهى عنه، رفيقاً فيما يأمر به رفيقاً فيما ينهى عنه، حليماً فيما يأمر به حليماً فيما ينهى عنه، فالفقه قبل الأمر؛ ليعرف المعروف وينكر المنكر، والرفق عند الأمر؛ ليسلك أقرب الطرق إلى تحصيل المقصود، والحلم بعد الأمر؛ ليصير على أذى المأمور المنهي فإنه كثيرا ما يحصل له الأذى بذلك، ولهذا قال تعالى: ﴿وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ [لقمان: 17]"(100).

8- الدعوة إلى الله تكون على بصيرة.

قال تعالى: ﴿قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [يوسف: 108].

"والبصيرة هي: العلم الشرعي المؤصل المبني على الدليل من الوحي المنزل من عند الله تعالى، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، والفهم لمراد الله تعالى فيما أنزله، أي: على علم ويقين وبرهان شرعي وعقلي فيما يدعو إلى فعله، وفيما يدعو إلى تركه، وفي أسلوب الدعوة، وفي حال المدعوين، وسلوك الطريق الصحيح في ذلك"(101).

"ثم أنه إنما يأمر وينهى من كان عالما بما يأمر به وينهى عنه وذلك يختلف باختلاف الشيء، فإن كان من الواجبات الظاهرة والمحرمات المشهورة كالصلاة والصيام والزنا والخمر ونحوها فكل المسلمين علماء بها، وان كان من دقائق الأفعال والأقوال ومما يتعلق بالاجتهاد لم يكن للعوام مدخل فيه ولا لهم إنكاره بل ذلك للعلماء"(102).

9- يتعين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الإمام، وهو في حقه آكد من غيره؛ حيث أن الله فرن ذلك بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، فقال الله تعالى: ﴿الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾ [الحج: 41]، قال القرطبي -رحمه الله-: "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض على الكفاية وقد عينهم الله تعالى بقوله: ﴿الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ وليس كل الناس مكنوا"(103).ولهذا كان على ولي أمر المسلمين أن يقيم هذه الفريضة الربانية، وأن لا يكون عائقاً أمام الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر؛ لأنه ما وجد إلا لإقامة الحق فإذا حارب أهل الحق إرضاءً لغير المسلمين وولاءً للمشركين، فهي الكارثة العظمى، والداهية الكبرى.

قال ابن تيمية -رحمه الله-: "وولي الأمر إذا ترك إنكار المنكرات وإقامة الحدود عليها بمال يأخذه كان بمنزلة مقدم الحرامية الذي يقاسم المحاربين على الأخيذة، وبمنزلة القواد الذي يأخذ ما يأخذه؛ ليجمع بين اثنين على فاحشة، وكان حاله شبيهاً بحال عجوز السوء امرأة لوط التي كانت تدل الفجار على ضيفه التي قال الله تعالى فيها: ﴿فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ﴾ [الأعراف: 83] وقال تعالى:﴿وأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ وَامْضُواْ حَيْثُ تُؤْمَرُونَ﴾ [الحجر: 65] فعذب الله عجوز السوء القوادة بمثل ما عذب قوم السوء الذين كانوا يعملون الخبائث؛ وهذا لأن هذا جميعه أخذ مالٍ للإعانة على الإثم والعدوان، وولي الأمر إنما نصب؛ ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وهذا هو مقصود الولاية، فإذا كان الوالي يمكن من المنكر بمال يأخذه كان قد أتى بضد المقصود من نصبته ليعينك على عدوك فأعان عدوك عليك، وبمنزلة من أخذ مالاً ليجاهد له في سبيل الله فقاتل به المسلمين يوضح ذلك أن صلاح العباد بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن صلاح المعاش والعباد في طاعة الله ورسوله ولا يتم ذلك إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبه صارت هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس"(104)، فعقابه أنه يصيب بالعذاب من لم يباشر أسبابه وقد وردت الآيات القرآنية بأنه لا يصاب أحد إلا بذنبه ولا يعذب إلا بجنايته.

10- تعين الأمر بالمعروف على السلطان لا يمنع من نصحه وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر في حال التقصير.

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقتصر على الرعية دون الرعاة، بل يجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعامة المسلمين وأئمتهم، عن تميم الداري أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «الدين النصيحة قلنا لمن؟ قال لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم»(105).

ومن أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطانٍ جائر، وكلمة العدل التي تقال عند السلطان الجائر لجوره وظلمه إنما هي نصيحة له وأمر بمعروف أو نهي عن منكر، عن أبي سعيد الخدري: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن من أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر»(106).

ولا يمنعن هيبة الرجل من أمره بالمعروف، قال النووي -رحمه الله-: "فينبغي لطالب الآخرة والساعي في تحصيل رضا الله عز وجل أن يعتني بهذا الباب فان نفعه عظيم لا سيما وقد ذهب معظمه ويخلص نيته ولا يهابن من ينكر عليه لارتفاع مرتبته فان الله تعالى قال: ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحج: 40] وقال تعالى: ﴿وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ [آل عمران: 101] وقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [العنكبوت: 69] وقال تعالى: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ [العنكبوت: 2-3] واعلم أن الأجر على قدر النصب"(107).

وإذا كان الأمر كذلك فمن الأولى لمن يطلب الوجاهة عند السلطان، ودوام المنزلة عنده ألا يدع الأمر بالمعروف لذلك، قال النووي -رحمه الله-: "ولا يتاركه أيضاً لصداقته ومودته ومداهنته وطلب الوجاهة عنده ودوام المنزلة لديه، فان صداقته ومودته توجب له حرمة وحقاً ومن حقه أن ينصحه ويهديه إلى مصالح آخرته وينقذه من مضارها وصديق الإنسان ومحبه هو من سعى في عمارة آخرته وأن أدى ذلك إلى نقص في دنياه، وعدوه من يسعى في ذهاب أو نقص آخرته وان حصل بسبب ذلك صورة نفع في دنياه، وإنما كان إبليس عدوا لنا لهذا وكانت الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين أولياء للمؤمنين؛ لسعيهم في مصالح آخرتهم وهدايتهم إليها ونسأل الله الكريم توفيقنا وأحبابنا وسائر المسلمين لمرضاته وأن يعمنا بجوده ورحمته"(108).

سابعاً: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وزيادة الإيمان.

من الأعمال التي تزيد الإيمان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد دل على ذلك الكتاب والسنة، قال الله تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة: 71].

فهذه الآية الكريمة بينت منهم المؤمنون، وما أوصافهم، والتي منها أنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فمن لم يقم بذلك فهو دليلُ ضعفِ إيمانه، أما من أدى هذا الواجب فهو دليلُ إيمانه وقربه من خالقه ومولاه، فالإيمان يزداد بالطاعات والتي من أعظمها الأمر بالمعروف، وينقص بالمعاصي والتي منها ترك الأمر بالمعروف، فهو من أوصاف الذين لا إيمان لهم وهم المنافقون، الذين وصفهم الله بعدم الإيمان فقال: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة: 8] هؤلاء المنافقون يقومون بعمل يناقض عمل أهل الإيمان وهو الأمر بالمنكر، والنهي عن المعروف، قال الله تعالى: ﴿الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [التوبة: 67] ولما كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أوصاف المؤمنين ذكرهم الله ضمن المؤمنين الذين بشرهم الله بدخول الجنة فقال: ﴿التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [التوبة: 112]، بل أن النبي -صلى الله عليه وسلم- جعل دليل قوة الإيمان تغيير المنكر، وكلما كان المؤمن أقوى في التغيير كان دليلاً على قوة إيمانه، وضعفه في التغيير دليل على ضعف إيمانه، وقد بوب مسلم في كتابه: باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان، وأن الإيمان يزيد وينقص، وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان، ثم ذكر من الأحاديث ما روى طارق بن شهاب قال: أول من بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة مروان، فقام إليه رجل فقال: الصلاة قبل الخطبة، فقال: قد ترك ما هنالك، فقال أبو سعيد: أما هذا فقد قضى ما عليه سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، ومن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان»(109).

وعن عبدالله بن مسعود أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل»(110).

قال سيد قطب -رحمه الله-: "وقد يجيء على المسلمين زمان لا يستطيعون فيه تغيير المنكر بأيديهم؛ ولا يستطيعون فيه تغيير المنكر بألسنتهم؛ فيبقى أضعف الإيمان؛ وهو تغييره بقلوبهم؛ وهذا ما لا يملك أحد أن يحول بينهم وبينه، إن هم كانوا حقاً على الإسلام! وليس هذا موقفاً سلبياً من المنكر -كما يلوح في بادئ الأمر- وتعبير الرسول -صلى الله عليه وسلم- بأنه تغيير دليل على أنه عمل إيجابي في طبيعته.

فإنكار المنكر بالقلب، معناه احتفاظ هذا القلب بإيجابيته تجاه المنكر إنه ينكره ويكرهه ولا يستسلم له، ولا يعتبره الوضع الشرعي الذي يخضع له ويعترف به وإنكار القلوب لوضع من الأوضاع قوة إيجابية لهدم هذا الوضع المنكر، ولإقامة الوضع المعروف في أول فرصة تسنح، وللتربص بالمنكر حتى تواتي هذه الفرصة، وهذا كله عمل إيجابي في التغيير، وهو على كل حال أضعف الإيمان، فلا أقل من أن يحتفظ المسلم بأضعف الإيمان! أما الاستسلام للمنكر لأنه واقع ولأن له ضغطاً - قد يكون ساحقاً - فهو الخروج من آخر حلقة، والتخلي حتى عن أضعف الإيمان! هذا وإلا حقت على المجتمع اللعنة التي حقت على بني إسرائيل: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ﴾ [المائدة: 78- 79]"(111).

إعداد: مرفق مصلح ناجي ياسين

مراجعة: علي عمر بلعجم 28/ 8/ 2007م

_________________________

(1) تفسير ابن كثير، 1/ 169.

(2) تفسير الطبري، 10/ 13.

(3) مجموع الفتاوى، 11/ 510.

(4) لسان العرب، 9/ 236.

(5) المصدر السابق، 5/ 232.

(6) التحرير والتنوير، 801.

(7) تفسير الطبري، 3/ 389.

(8) المصدر السابق، 6/ 482.

(9) التحرير والتنوير، 2788.

(10) تفسير الطبري، 3/ 389.

(11) مجموع الفتاوى، 15/ 166- 167.

(12) فتح القدير، 1/ 557.

(13) في ظلال القرآن، 2/ 392.

(14) التحرير والتنوير، 799.

(15) تفسير البيضاوي، 74.

(16) فتح القدير، 1/ 557.

(17) مجموع الفتاوى، 11/ 94.

(18) شرح النووي على مسلم، 2/ 23.

(19) الماوردي الأحكام السلطانية، 240.

(20) شرح النووي على صحيح مسلم، 2، 23.

(21) أحكام القرآن، 1/ 122.

(22) شرح النووي على صحيح مسلم، 2/ 23.

(23) الحسبة في الإسلام، 37.

(24) الدعوة إلى الله وما ينبغي أن يتحلى به الدعاة، عبد العزيز بن عبد الله بن باز، 16، الكويت، الدار السلفية، 1404 هـ.

(25) مجموع الفتاوى، 28/ 126.

(26) أضواء البيان،1/ 484.

(27) أخرجه مسلم، 3/ 1599، برقم: 2021.

(28) شرح النووي على مسلم، 13/ 192.

(29) أخرجه البخاري، 2/ 870، برقم: 2333، ومسلم، 3/ 1675، برقم: 2121.

(30) تفسير القرطبي، 4/ 49.

(31) تفسير ابن كثير، 1/ 527.

(32) فتح القدير، 1/ 563.

(33) التحرير والتنوير، 805.

(34) إحياء علوم الدين، 2/ 307.

(35) تفسير الطبري، 3/ 389.

(36) إحياء علوم الدين، 2/ 307.

(37) تفسير القرطبي، 12/ 69.

(38) تفسير الطبري، 4/ 276.

(39) أخرجه مسلم، 4/ 2060، برقم: 2674.

(40) أخرجه مسلم، 4/ 2217، برقم: 144.

(41) الكشاف، 1/ 197.

(42) إعلام الموقعين، 2/ 229.

(43) تفسير الطبري، 6/ 415.

(44) تفسير ابن كثير، 4/ 128.

(45) تفسير الطبري، 11/ 109.

(46) الكشاف، 1/ 1146.

(47) رسالة ابن القيم، ص20، فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية، الرياض، الطبعة الأولى، 1420هـ،تحقيق: عبدالله بن محمد المديفر

(48) أخرجه الترمذي، 5/ 50، برقم: 2685، قال أبو عيسى هذا حديث غريب قال سمعت أبا عمار الحسين بن حريث الخزاعي يقول سمعت الفضيل بن عياض يقول عالم عامل معلم يدعى كبيرا في ملكوت السموات، قال الشيخ الألباني: صحيح، انظر حديث رقم: 1838 في صحيح الجامع، الجامع الصغير وزيادته، 1/ 272.

(49) فيض القدير، 4/ 432.

(50) تحفة الأحوذي، 7/ 380.

(51) مفتاح دار السعادة،1/ 64.

(52) أخرجه مسلم، 4/ 2060، برقم: 2674.

(53) شرح النووي على مسلم، 16/ 227.

(54) عون المعبود، 12/ 236.

(55) اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم، ابن تيمية، ص383، مطبعة السنة المحمدية، القاهرة، الطبعة الثانية، 1369هـ، تحقيق: محمد حامد الفقي، والحديث سبق تخريجه.

(56) أخرجه البخاري، 4/ 1542، برقم: 3973، ومسلم، 4/ 1872، برقم: 2406

(57) أخرجه البخاري، 3/ 1221، برقم: 2880، ومسلم،4/ 2207، برقم: 2880، ولفظه عند مسلم: خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوماً فزعاً محمراً وجهه يقول: «لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه» وحلق بإصبعه الإبهام والتي تليها، قالت: فقلت: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: «نعم إذا كثر الخبث».

(58) شرح النووي على مسلم، 18/ 3.

(59) فيض القدير، 1/ 336.

(60) فتح الباري، ابن حجر، 13/ 109.

(61) سنن الترمذي، 4/ 468، برقم: 2169، قال أبو عيسى هذا حديث حسن، قال الشيخ الألباني: حسن لغيره، صحيح الترغيب والترهيب، 2/ 286، برقم: 2313.

(62) أخرجه مسلم، 1/ 74، برقم: 55.

(63) تفسير القرطبي، 16/ 73.

(64) المصدر السابق، 28/ 126.

(65) المصدر السابق، 5/ 47.

(66) مجموع الفتاوى، 14/ 472.

(67) انظر أثر الاختلاف في القواعد الأصولية في اختلاف الفقهاء، د: مصطفى الخن، 38- 117، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية، 1424هـ، 2003م.

(68) شرح النووي على مسلم، 2/ 23.

(69) مجموع الفتاوى، 20/ 292.

(70) أخرجه البخاري، 5/ 2253، برقم: 5717، ومسلم، 4/ 1985، برقم: 2563.

(71) شرح النووي على مسلم، 2/ 26.

(72) المصدر السابق، 2/ 23.

(73) المصدر السابق، 2/ 23.

(74) فتح الباري، ابن حجر، 13/ 53.

(75) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير، 2/ 165، برقم: 1681، قال الشيخ الألباني: صحيح، انظر حديث رقم: 5831 في صحيح الجامع، حسن صحيح الترغيب والترهيب،1/ 31، برقم: 2328.

(76) أخرجه البخاري، 3/ 1191، برقم: 3094، ومسلم، 4/ 2290، برقم: 2989.

(77) أخرجه ابن حبان، 1/ 249، برقم: 53، قال الشيخ: روى هذا الخبر أبو عتاب الدلال عن هشام عن المغيرة عن مالك بن دينار عن ثمامة عن أنس ووهم فيه؛ لأن يزيد بن زريع أتقن من مئتين من مثل أبي عتاب وذويه، وقال شعيب الأرنؤوط: الحديث صحيح، وقال الشيخ الألباني: صحيح، انظر صحيح الترغيب والترهيب، 2/ 289، برقم: 2327.

(78) تفسير ابن كثير، 1/ 124.

(79) إحياء علوم الدين، 2/ 334.

(80) تفسير ابن كثير، 4/ 128.

(81) أخرجه ابن ماجة، 2/ 1327، برقم: 4005، قال الشيخ الألباني: صحيح، انظر: صحيح الترغيب والترهيب، 2/ 286، برقم: 2317.

(82) مجموع الفتاوى، 28/ 127.

(83) تفسير ابن كثير، 2/ 101.

(84) تفسير القرطبي، 6/ 223.

(85) أخرجه البخاري، 2/ 882، برقم: 2361، ومسلم، 4/ 2290، برقم: 2989، من حديث النعمان بن بشير -رضي الله عنهما-.

(86) تفسير القرطبي، 7/ 343.

(87) فتح القدير،2/ 436.

(88) تفسير القرطبي، 7/ 343.

(89) تفسير ابن كثير، 2/ 781.

(90) إعلام الموقعين، 3/ 138.

(91) إحياء علوم الدين، 2/ 334.

(92) شرح النووي على مسلم، 2/ 24.

(93) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير، 8/ 183، برقم: 7759، قال الشيخ الألباني: صحيح، انظر: السلسلة الصحيحة، 1/ 712، برقم: 370.

(94) أخرجه مسلم، 3/ 1420، برقم: 1795.

(95) إحياء علوم الدين، 2/ 335.

(96) أخرجه البخاري، 5/ 2242، برقم: 5678.

(97) أخرجه مسلم، 4/ 2003، برقم: 2592.

(98) أخرجه مسلم، 4/ 2003، برقم: 2593.

(99) أخرجه مسلم، 4/ 2004، برقم: 2594.

(100) مجموع الفتاوى، 15/ 167.

(101) البصيرة في الدعوة إلى الله، 1/ 9، عزيز بن فرحان العنزي، دار الإمام مالك، أبو ظبي، الطبعة: الأولى، 1426هـ - 2005م.

(102) شرح النووي على مسلم، 2/ 23.

(103) تفسير القرطبي، 4/ 162.

(104) مجموع الفتاوى، 28/ 305- 306، السياسة الشرعية،.87

(105) أخرجه مسلم، 1/ 74، برقم: 55.

(106) سنن الترمذي، 4/ 471، برقم: 2174، قال أبو عيسى: وفي الباب عن أبي أمامة وهذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، وقال الشيخ الألباني: صحيح، انظر حديث رقم: 2209 في صحيح الجامع.

(107) شرح النووي على مسلم، 2/ 24.

(108) نفس المصدر السابق.

(109) أخرجه مسلم، 1/ 69، برقم: 49.

(100) أخرجه مسلم، 1/ 69، برقم: 50.

(111) في ظلال القرآن، 2/ 409- 410.

المصدر
LihatTutupKomentar