Ringkasan Fiqih Jihad Yusuf Qardhawi

Ringkasan Fiqih Jihad Yusuf Qardhawi
Ringkasan Fiqih Jihad Yusuf Qardhawi

حكم مقاتلة المسالمين، الخلاف الفقهي الدائر بين الفقهاء القدامى والمحدثين، وأنهم ينقسمون فريقين : الفريق الأول : يرى أن أصل العلاقة بين المسلمين وغيرهم هي الحرب سواء أكانوا مسالمين أم محاربين. الفريق الثاني : يرى أن أصل العلاقة بين المسلمين وغيرهم السلم، وأنهم لا يقاتلون إلا من قاتلهم . فقه الجهاد1/ 257

الجهاد: بين الدفاع والهجوم

تتناول هذه الحلقة الباب الثالث من أبواب فقه الجهاد لفضيلة الشيخ العلامة الدكتور يوسف القرضاوي، وهو من أطول أبواب الكتاب، بل أطولها على الإطلاق حيث تجاوزت صفحاته (170) صحيفة انتظمت (12) اثنى عشر فصلا، كلها تدور حول مناقشة فكرة جوهرية هامة، وهي سبب الحرب وعلتها في الإسلام هل هي للهجوم والغزو بقصد توسيع دائرة الإسلام ، وإخضاع الناس ـ كل الناس ـ وتعبيدهم لله رب العالمين، أم أنها للدفاع عن الإسلام والمسلمين بغرض الدعوة إليه، وعرضه على الناس ثم نترك لهم حرية الاختيار من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ؟

بعبارة أوجز هل القتال في الإسلام للدفاع أم للهجوم؟

وهنا يذكر الشيخ رأيين للعلماء يطلق على الفريق الأول الدفاعيين أو المسالمين المعتدلين، والثانية الهجوميين أو المتشددين.

ـ تحرير محل النزاع

وقبل الخوض في أدلة كل فريق وبيان وجهة نظره يحسن بنا ـ كما فعل الشيخ ـ أن نحرر موطن الخلاف أو النزاع بين الفريقين.

فكلا الفريقين يوجب جهاد الدفع، وهو رد الاعتداء الذي يحدث على أرض أو أفراد الدول الإسلامية في الخارج والداخل، فهذا فرض بإجماع الفقهاء المتقدمين منهم والمتأخرين.

وكلا الفريقين يتفق على وجوب بعض أنواع من جهاد الطلب منها :

أولا: تأمين حرية الدعوة، ومنع الفتنة في الدين، ومقاومة الذين يمنعون الدعوة بالقوة، بل يقتلون الدعاة، كما فعل الأمراء التابعون لإمبراطور الروم.

ثانيا: تأمين سلامة الدولة الإسلامية، وسلامة حدودها، إذا كانت مهدَّدة من قِبَل أعدائها.

ثالثا: إنقاذ المستضعفين من أُسارى المسلمين، أو من أقلياتهم، التي تعاني التضييق والاضطهاد والتعذيب، من قِبَل السلطات الحاكمة الظالمة المستكبرة في الأرض بغير الحق.

رابعا: إخلاء جزيرة العرب من (الشرك المحارب)، المتجبِّر في الأرض، وخلع أنيابه المفترسة، واعتبار الجزيرة وطنا حرًّا خالصا للإسلام وأهله، وبهذا يكون للإسلام معقِله الخاص، وحِماه الذي لا يشاركه فيه أحد ([1])

وموضع الخلاف يتحدَّد في نقطة واحدة، وهي: غير المسلمين المسالمون، الذين لم يقاتلوا المسلمين في الدين، ولم يخرجوهم من ديارهم، ولم يظاهروا على إخراجهم، ولم يظهر في أقوالهم ولا أعمالهم أي سوء يضمرونه للمسلمين، بل كفُّوا عن المسلمين أيديهم وألسنتهم، وألقَوا إليهم السلم، فهل يقاتَل هؤلاء أو لا يقاتَلون؟

فريق المعتدلين أو دعاة السلام، أو الدفاعيين كما يسمُّونهم، يقولون: هؤلاء لا يقاتَلون، لأنهم لم يفعلوا شيئا يستوجب قتالهم، بل صريح آيات القرآن الكثيرة يمنع من قتالهم. نقرأ من هذه الآيات:

في سورة البقرة: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة:190].

وفي نفس السورة: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة:256].

وفي سورة آل عمران: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64].

وفي سورة النساء: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً} [النساء:90].

والمتشدِّدون من ذوي الرأي المعاكس، يتخلَّصون من هذه الآيات بكلمة في غاية السهولة، ولكنها في غاية الخطورة، وهي قولهم: إن هذه الآيات كلها (منسوخة). والذي نسخها: آية أو جزء من آية من سورة التوبة، وهي: ما أُطلق عليه: (آية السيف). ([2])

وترتب على هذا الفكر المتشدد ـ كما يقول الشيخ ـ عدة آثار منها :

1. رفض ميثاق الأمم المتحدة.

2. تجريم الانضمام إلى هيئة الأمم المتحدة.

3. معارضة اتفاقية إلغاء الرق.

4. معارضة اتفاقية جنيف بشأن الأسرى.

ثم ناقش قضية أخرى وهي أن هذا الفكر المتشدد يثبّت فرية انتشار الإسلام بحد السيف، التي يلصقها غير المسلمين ظلما وعدوانا بالإسلام.

يقول الشيخ : إلا أن أعجب ما رأيتُ وما قرأتُ: أن أحدا من بني جلدتي، أي من المسلمين بل من المنتسبين للعلم الشرعي، وممَّن حصل على درجة (الدكتوراه) في (أهمية الجهاد): مَن يتبنى مقولة انتشار الإسلام بالسيف! ويدافع عنها، ويتَّهم كل مَن يشكِّك فيها أو يردُّ عليها بأنهم من تلامذة الاستعمار! وهو يسميه انتشار الإسلام بالجهاد، ولا فرق بين كلمة (الجهاد) وكلمة (السيف) في هذا المقام. ([3])

وقد صبَّ جام غضبه، ووجه جُلَّ نباله إلى صدر المستشرق الباحث والمؤرخ المنصف بشهادة الجميع: توماس أرنولد، لردِّه المقنع الموثَّق بالأدلة التاريخية على المبشرين والمستشرقين الحاقدين، الذين وصموا الإسلام بأنه لم ينتشر إلا بحدِّ السيف!

وقد قام بترجمة الكتاب المذكور ثلاثة من أبناء المسلمين ذكروا في المقدمة ما يلي:

(وأما مؤلف هذا الكتاب - وهو العالم المحقِّق السير توماس أرنولد - فلا نستطيع أن نقدِّره قدره!!)[4].

قال العَلْياني مؤلف كتاب (أهمية الجهاد): (قلتُ: إن قدره – لو يعلم هؤلاء - هو الضرب بالسيف حتى يبرد، إن لم يخضع للإسلام، أو يدفع الجزية!!)[5] انتهى.

فيا للعار، ويا للغباء!! وأي غباء أعظم من أن يحتضن الإنسان ما يتَّهمه به عدوه، وما يفتريه عليه، ويحاول أن يسنده ويدلِّل عليه، ويتحمَّس له، وأن يعادي مَن ينصره، ويردُّ على خصومه، ويقول بكل جهل وصفاقة: قدره عندنا أن يُضرب بالسيف!!
إن هذا الكاتب وأمثاله يؤذون الإسلام بأكثر مما يؤذيه به أعداؤه المجاهرون، ويخدمون أعداء الإسلام من حيث لا يشعرون بأكثر مما يخدُمهم المبشرون والمنصِّرون، فهم يضرون حيث يريدون أن ينفعوا، ويهدمون حيث يريدون أن يبنوا، وقديما قالوا: عدو عاقل خير من صديق أحمق! ([6])
ثم يناقش الشيخ في الباب الثاني حكم مقاتلة المسالمين، وينقل الخلاف الفقهي الدائر بين الفقهاء القدامى والمحدثين، وأنهم ينقسمون فريقين :

الفريق الأول : يرى أن أصل العلاقة بين المسلمين وغيرهم هي الحرب سواء أكانوا مسالمين أم محاربين.

الفريق الثاني : يرى أن أصل العلاقة بين المسلمين وغيرهم السلم، وأنهم لا يقاتلون إلا من قاتلهم .

أدلة دعاة الحرب على العالم:

استند القائلون بشرعية القتال للناس كافة: مَن حاربنا، ومَن سالمنا، بجملة أدلة من القرآن، ومن الحديث، ومن السيرة النبوية. ومن التاريخ، ومن أقوال الفقهاء، ومن فلسفة الإسلام. نذكر هذه الأدلة إجمالا ثم نعلِّق عليها.

1. قوله تعالى في سورة البقرة: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة:193]، وفي سورة الأنفال: {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:39]، ومعنى {لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} في رأيهم: أي لا يكون شرك. كما رُوي عن بعض المفسرين.

2. (آية السيف) التي نسخت نحو مائة وأربع عشرة آية، أو مائة وأربعين آية من القرآن، أو أكثر من ذلك. وهي توجب قتال الكفار كافَّة. وأكثر ما قيل: إنها آية: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} [التوبة:5].

3. حديث: "بعثت بين يدي الساعة بالسيف". وهو يوحي باستخدام القوة في مواجهة الجميع.

4. حديث: "أُمرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله". ومعناه واضح كل الوضوح، فلم يعلِّل القتال بشيء، إلا أن يقولوا: "لا إله إلا الله": أي يدخلوا في الإسلام.

5. غزوات الرسول كانت مبادأة بالهجوم. كما في فتح مكة، وغزوة تبوك، وغيرهما.

6. فتوح الخلفاء الراشدين والصحابة - وهم الذين يُقتدَى بهم فيُهتدَى - كانت ابتداء وطلبا.

7. إجماع الفقهاء على أن الجهاد فرض كفاية على الأمة، ومعناه: وجوب الغزو لأرض الكفار كلَّ سنة مرة. على الأقل.

8. عِلَّة القتال هي (الكفر) فهو وحده عِلَّة تامة، وإن وُجدت علل أو أسباب أخرى، مثل العدوان على الإسلام وأهله، فهي تُقوِّي سبب الكفر.

9. فلسفة إخضاع السلطات الطاغية، والأنظمة الظالمة، لنظام الإسلام، وحكم الإسلام، حتى ترى الشعوب الإسلام بأعينها: عملا وتطبيقا وأخلاقا، فتتأثر به، وتدخل فيه. ([7])

ثم يناقش هذه الأدلة بالتفصيل ، ويفرد الشيخ لكل دليل من هذه الأدلة فصلا مستقلا.

فيقول عند مناقشته للدليل الأول وهو {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} : إن العلماء ـ علماء التفسير مختلفون في تأويل معنى الفتنة هنا هل هي الشرك والكفر أو فتنة المسلمين عن دينهم وإرجاعهم إلى الكفر مرة أخرى، وبعد أن ينقل رأي الجصاص، والرازي والقاسمي، يرجح الرأي الثاني ، وهو القتال حتى لا تكون فتنة للمسلمين والمستضعفين حتى يرجعوا قهرا إلى دين الكفر بعد أن هداهم الله لنور الإيمان .

والدليل الثاني : وهو الاستدلال بآية السيف التي يقول بعض العلماء إنها نسخت (140) مائة وأربعين آية من كتاب الله تعالى يقول الشيخ تعقيبا على هذا الاستدلال :

والعجب العاجب في هذا الأمر: أنهم اختلفوا في تعيين هذه الآية التي زعموها ناسخة - آية السيف - أيُّ آية هذه من كتاب الله؟! وإن اتفقوا على أنها آية من سورة التوبة.

هل هي آية: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ...} [التوبة:5].

أو هي آية: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة:36].

أو هي آية: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:41].

أو هي آية: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29].

وإن كان الأكثرون يرجِّحون: أن آية السيف هي أول آية ذكرناها في هذا السياق، وهي الآية الخامسة من سورة التوبة. ([8])

ثم يستطرد الشيخ ليعالج هذه القضية من خلال ثلاثة محاور:

الأول: قضية النسخ بين الموسعين والمضيقين.

الثاني: متى يلزمنا القول بالنسخ؟.

الثالث: هل يمكننا القول أن آية السيف نسخت كل هذه الآيات ؟

وبعد أن يستعرض أدلة القائلين بالنسخ وردود العلماء عليها يقول : على أن الذي يُهمُّنا هنا أن نقرِّره ونبيِّنه ونثبِّته، هو: التضييق الشديد في دعاوى النسخ في كتاب الله، فإن الله تعالى لم يُنزل كتابه إلا ليُهتدى بهداه، ويُؤتمر بما أمر، ويُنتهى عما نهى، ويُعمل بأحكامه، وكل دعوى لنسخ آية أو بعض آية منه، فهي على خلاف الأصل، وما جاء على خلاف الأصل لا يُقبل إلا ببرهان يقطع الشكَّ باليقين.

ولو طبَّقنا ما وضعه علماء أصول الدين، وعلماء أصول الفقه، وعلماء أصول التفسير، وعلماء أصول الحديث، من قواعد وضوابط وشروط، فإننا لا نكاد نجد - بل لا نجد - آية في القرآن الكريم مقطوعا بنسخها، وما لم يُقطع بنسخه فيجب أن يبقى حكمه ثابتا مُلزِما كما أنزله الله تعالى، ولا ننسخه ونبطل حكمه بمحض الظن، فإن الظنَّ لا يُغني من الحقِّ شيئا. ([9])

ثم يذكر الشيخ شرطا هاما لقبول النسخ عند من يقول به: (ومن شروط قَبول النسخ عند مَن سلَّم به: أن يكون هناك تعارض حقيقي بين النصِّ الناسخ، والنصِّ المنسوخ، بحيث لا يمكن الجمع بينهما بحال من الأحوال، أما إذا أمكن الجمع ولو في حال من الأحوال، فلا يثبت النسخ، لأنه خلاف الأصل)

وينقل عن السيوطي كيفية معرفة النسخ فيقول : نقل السيوطي في (إتقانه) في بيان كيف يُعرف النسخ؟ عن العلاَّمة ابن الحَصَّار قوله:

(إنما يُرجَع في النسخ إلى نقل صريح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو عن صحابي يقول: آية كذا نسخت آية كذا.

قال: وقد نحكم به عند التعارض المقطوع به، مع علم التاريخ، لنعرف المتقدِم والمتأخِّر.

قال: ولا يُعتمد في النسخ قول عوامِّ المفسرين، بل ولا اجتهاد المجتهدين من غير نقل صحيح، ولا معارضة بيِّنة، لأن النسخ يتضمَّن رفع حكم، وإثبات حكم تقرَّر في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم. والمعتمد فيه: النقل والتاريخ، دون الرأي والاجتهاد.

قال: والناس في هذا بين طرفيّ نقيض، فمن قائل: لا يُقبل في النسخ أخبار الآحاد العدول، ومن متساهل يكتفي فيه بقول مفسِّر أو مجتهد، والصواب خلاف قولهما) ([10])

ثمّ يناقش الشيخ الآيات التي قالوا عنها إنها آية السيف، ويناقش بعض الآيات التي قال بعض العلماء أنها نسختها ويخلص إلا أن الأمر خلافي بين الفقهاء حول تحديد آية السيف، وكذلك ما نسخته آية السيف، فبعض هذه الآيات تتحدث عن الأخلاق وقد بعث النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لإتمام مكارم الأخلاق ويقول : ومن الخطأ البين، أن يعتبر كل أمر جاء به القرآن بالإعراض عن المشركين: منسوخا بآية السيف، فهذا من التوجيه الخُلُقي، في القرآن، وتكوين الجانب الأخلاقي في الشخصية الإسلامية. ومثله لا يُنسخ. ([11])

وينتقل الشيخ إلى الدليل الثالث الذي يعتمد عليه من يقول إن الأصل في علاقة المسلمين بغيرهم الحرب وهو قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : بعثتُ بالسيف، حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظلِّ رمحي، وجعل الذلُّ والصَّغار على من خالف أمري، ومَن تشبَّه بقوم فهو منهم".

ثم يناقش سنده ومتنه، ويخلص إلى أنه لا يسلم من نقد في أحد رواته ينقله من مرتبة الصحة إلى مرتبة الضعف، ويناقش المتن ويخلص إلى أنه يعارض ما جاء في القرآن الكريم من أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعث رحمة للعالمين فيقول : وإذا غضضنا الطرف عن سند الحديث وما فيه من كلام، ونظرنا في متنه ومضمونه، وجدناه كذلك منكرًا، لا يتَّفق مع ما قرَّره القرآن بخصوص ما بُعث به محمد صلى الله عليه وسلم.

فالقرآن لم يقرِّر في آية واحدة من آياته أن محمدًا رسول الله بعثه الله بالسيف، بل قرَّر في آيات شتَّى أن الله بعثه بالهدى ودين الحق والرحمة والشفاء والموعظة للناس.

يقول تعالى في سورة التوبة: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33]، وتكررت الآية بلفظها في سورة الصف [الآية:9].

وقال تعالى في سورة الفتح: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} [الفتح:28].

وهذا كلُّه في القرآن المدني، وفي القرآن المكي نقرأ قوله تعالى في سورة الأنبياء: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107].

وفي سورة يونس: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس:57].

وفي سورة النحل: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل:89].

وفي سورة الإسراء: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً} [الإسراء:105].

وفي سورة البقرة: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} [البقرة:119]....

وهذه الآيات كلها مكيَّة ومدنيَّة، بصِيَغها المختلفة، تدلُّ دلالة جليَّة على أن الرسول الكريم لم يُبعث إلا بالهدى وبالحق وبالتبشير وبالإنذار، والبيان والشفاء لما في الصدور، والرحمة العامة للعالمين، ولم يُبعث بالسيف ولا بالرمح، كما هو منطوق الحديث.

وليس هناك أصدق ولا أبلغ من آيات القرآن العظيم تُؤخذ منها المفاهيم الحقيقية والأساسية لهذا الدين ([12])

وينتقل إلى مناقشة الدليل الرابع وهو قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمرتُ أن أقاتل الناس، حتى يقولوا: لا إله إلا الله ، ثم ينقل كلام الفقهاء وشراح الحديث القدامى والمحدثين ويخلص إلا أن هذا الحديث من العام الذي أريد به الخصوص، وينقل هنا كلام الشيخ محمد الغزالي في تعليقه على هذا الحديث فيقول:

فليست الغاية من القتال إذن أن يقولوا: لا إله إلا الله، كما جاء في الحديث.

فإذا كان أهل الكتاب مستثنين من الحديث المذكور، فهل يتناول الوثنيين كلهم؟ والجواب: لا! ففي حديث آخر صحيح إلحاق للمجوس بأهل الكتاب: "سنُّوا بهم سنة أهل الكتاب" (رواه مالك والبيهقي وغيرهما وضعفه الألباني.)

الحق أن الحديث في مشركي العرب الذين ضنُّوا على الإسلام وأهله بحقِّ الحياة، ولم يحترموا معاهدة مبرَمة، ولا موثقا مأخوذا.

وقد مُنح هؤلاء أربعة أشهر يراجعون أنفسهم ويصحِّحون موقفهم، فإن أبَوا إلا القضاء على الإسلام وجب القضاء عليهم.

ونقل كلاما آخر للإمام ابن تيمية رحمه الله في هذا الحديث حيث يقول: عرض شيخ الإسلام ابن تيمية لهذا الحديث في رسالته (قاعدة في قتال الكفار)، فكان له في فَهمه وشرحه تفسير آخر، غير ما يقوله الأكثرون، يجب أن نسجِّله هنا، لعمقه ووضوحه وأهميته. قال رحمه الله:

(وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أُمرتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقِّها، وحسابهم على الله": هو ذكر للغاية التي يُباح قتالهم إليها، بحيث إذا فعلوها حرم قتالهم.

قال: والمعنى: أني لم أُؤمر بالقتال إلا إلى هذه الغاية. ليس المراد: أني أُمرتُ أن أقاتل كل أحد إلى هذه الغاية! فإن هذا خلاف النصِّ والإجماع. فإنه لم يفعل هذا قط. بل كانت سيرته: أن مَن سالمه لم يقاتله) ([13])

ثم ينتقل إلى مناقشة الدليل الخامس، وهو الاستدلال بغزوات النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ويرد على هذه الدعوى بكلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم حيث يقول : (وكانت سيرته (صلى الله عليه وسلم): أن كلَّ مَن هادنه من الكفار لا يقاتله. وهذه كتب السيرة والحديث والتفسير والفقه والمغازي: تنطق بهذا. وهذا متواتر من سيرته.

فهو لم يبدأ أحدا من الكفار بقتال، ولو كان الله أمره بقتل كلِّ كافر، لكان يبتدئهم بالقتال)

ويقول ابن القيم في (هداية الحيارى): (ولم يكره أحدا قط على الدين، وإنما كان يقاتل مَن يحاربه ويقاتله. وأما مَن سالمه وهادنه، فلم يقاتله، ولم يكرهه على الدخول في دينه، امتثالا لأمر ربه حيث يقول: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة:256]، وهذا نفي في معنى النهي، أي لا تكرهوا أحدا على الدين. والصحيح أن الآية على عمومها في حقِّ كلِّ كافر.

ومَن تأمَّل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم تبيَّن له أنه لم يكره أحدا على دينه قط، وأنه إنما قاتل مَن قاتله، وأما مَن هادنه فلم يقاتله ما دام مقيما على هدنته، لم ينقض عهده؛ بل أمره الله تعالى أن يفيَ لهم بعهدهم ما استقاموا له، كما قال تعالى: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} [التوبة:7]، ولما قدم المدينة صالح اليهود وأقرَّهم على دينهم، فلما حاربوه ونقضوا عهده وبدؤوه بالقتال قاتلهم، فمنَّ على بعضهم، وأجلى بعضهم، وقتل بعضهم، وكذلك لما هادن قريشا عشر سنين لم يبدءهم بقتال حتى بدؤوا هم بقتاله ونقضوا عهده، فعند ذلك غزاهم في ديارهم، وكانوا هم يغزونه قبل ذلك، كما قصدوه يوم أحد، ويوم الخندق، ويوم بدر أيضا هم جاؤوا لقتاله، ولو انصرفوا عنه لم يقاتلهم، والمقصود: أنه صلى الله عليه وسلم لم يكره أحدا على الدخول في دينه البتة، وإنما دخل الناس في دينه اختيارا وطوعا)

ثم يتبعه بآراء للمعاصرين من أمثال الشيخ محمد الغزالي والشيخ عبد اللطيف آل محمود وغيرهم([14])

وينتقل لمناقشة الدليل السادس وهو الاستدلال بفتوحات الخلفاء الراشدين على أن الأصل في علاقة المسلمين بغيرهم هو الحرب لا السلم، فيقول :

والذي أراه ويراه المحققون المتدبِّرون للتاريخ، الذي يقرؤونه قراءة صحيحة غير سطحية ولا معتسفة : أن هذه الفتوح كانت امتدادًا لما بدأ في العهد النبوي من صدام مسلَّح مع الجبابرة الطغاة، أو - بتعبير عصرنا - مع الإمبريالية العالمية المستكبرة، لم يكن هدفها مجرَّد التوسُّع وإخضاع الآخرين، بل كان لها أهداف عدة منها:

1. إزالة الحواجز من طريق الإسلام.

2. حروب وقائية لحماية الدولة الإسلامية.

3. حروب تحرير للشعوب المستضعفة. ([15])

وينتقل الشيخ لمناقشة الدليل السابع الذي يعتمد عليه القائلون بأن الأصل في علاقة المسلمين بغيرهم الحرب وهو أن الكفر وحدة علة كافية للقتل والقتال.

وينقل رأي الحنفية وهو يخالف رأي الشافعي في هذه المسألة ثم يذكر رأي ابن تيمية واستدلاله على أن الأصل في العلاقة السلم فيقول: ولشيخ الإسلام ابن تيمية رسالة في (قتال الكفار)، أيَّد فيها هذا الرأي بما عهد عنه من براعة وتميُّز وموسوعية، في قوة التأصيل، ووفرة التدليل، وقد أنكرها بعض علماء السعودية، وأبَوا أن يُدخلوها في مجموع فتاواه التي بلغت خمسة وثلاثين مجلدا، بغير حُجَّة، إلا أنها لا توافق اتجاههم الذي تبنَّوه، وهو وجوب قتال العالم كله: مَن سالمنا ومَن حاربنا سواء.

وقد أقرَّها العلاَّمة الشيخ محمد أبو زهرة، ونقل منها في كتابه عن (ابن تيمية).

وأقرَّها كذلك العلاَّمة الفقيه الحنبلي الشيخ عبد الله بن زيد المحمود - قاضي قضاة قطر - في كتابه (الجهاد المشروع في الإسلام) وأكثر النقل منها.

وأقرَّها كذلك العالم والباحث السعودي الشيخ الدكتور عبد الله القادري الأهدل في كتابه عن (الجهاد في الإسلام) ونقل منها....

وفي هذه الرسالة بيَّن شيخ الإسلام اختلاف الأئمة حول هذه القضية الكبيرة: هل يقاتَل الكفار لحرابهم واعتدائهم على المسلمين، أو لمجرَّد كفرهم، وإن لم يقع منهم ضرر ولا أذى للمسلمين، إلى رأيين:

الأول: هو رأي الجمهور: مالك وأبي حنيفة وأحمد، والثاني: هو رأي الشافعي.

وقد رجَّح ابن تيمية رأي الجمهور، وضعَّف رأي الشافعي، وبسط القول في ذلك على عادته، بما حباه الله من غزارة العلم، وقوة الحجَّة، والقدرة على التأصيل.

ونستطيع أن نلخِّص أهم أدلَّته هنا :

1- قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا} [البقرة:190]، فهذا تعليق للحكم بكونهم يقاتلوننا، فدلَّ على أن هذا علَّة الأمر بالقتال.

2- ما ثبت في السنن: أن النبي صلى الله عليه وسلم، مرَّ في بعض مغازيه على امرأة مقتولة، فقال: "ما كانت هذه لتقاتل". فعلم أن العلَّة في تحريم قتلها: أنها لم تكن تقاتل، لا كونها مالا للمسلمين (أي كما يقول الشافعي).

3- وأيضا قوله: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة:256]. وهذا نصٌّ عام: أنا لا نُكره أحدا على الدين، فلو كان الكافر يقتل حتى يُسلِم، لكان هذا أعظم الإكراه على الدين.

قوله تعالى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ - (أضعفتموهم) - فَشُدُّوا الْوَثَاقَ - (ابدؤوا الأسر) - فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد:4]. والمن: إطلاق الأسير بغير مقابل. والفداء: أن يفدى بمال أو بأسير أو أكثر.

4- كما استدلَّ شيخ الإسلام بسيرته صلى الله عليه وسلم، فقال: وكانت سيرته: أن كلَّ مَن هادنه من الكفار لا يقاتله. وهذه كتب السيرة والحديث والتفسير والفقه والمغازي تنطق بهذا. وهذا متواتر من سيرته.

فهو لم يبدأ أحدا من الكفار بقتال، ولو كان الله أمره أن يقتل كلَّ كافر لكان يبتدئهم بالقتل والقتال.

5- قوله تعالى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ - (أضعفتموهم) - فَشُدُّوا الْوَثَاقَ - (ابدؤوا الأسر) - فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد:4]. والمن: إطلاق الأسير بغير مقابل. والفداء: أن يفدى بمال أو بأسير أو أكثر.

6- كما استدلَّ شيخ الإسلام بسيرته صلى الله عليه وسلم، فقال: وكانت سيرته: أن كلَّ مَن هادنه من الكفار لا يقاتله. وهذه كتب السيرة والحديث والتفسير والفقه والمغازي تنطق بهذا. وهذا متواتر من سيرته.

7- قال شيخ الإسلام: وأيضا لو كان مجرَّد الكفر مبيحا، لما أنزل النبي صلى الله عليه وسلم قريظة على حكم سعد بن معاذ فيهم، ولو حكم فيهم بغير القتل لنَفَذَ حكمه.

8- وأيضا فلو كان الكفر موجبا للقتل: لم يجُز إقرار كافر بالجزية والصغار، فإن هذا لم يبدِّل الكفر. ولهذا لما كانت الردَّة موجبة للقتل، لم يجُز إقرار مرتد بجزية وصغار.

9- أكَّد ابن تيمية قوله بأن الأصل في قتل الآدمي الحرمة، ولو كان غير مسلم. وإنما أباح الله من قتل النفوس ما يُحتاج إليه في صلاح الخلق، ولذا قرَّر: أن قتل الكافر الذي لا يضرُّ المسلمين، من غير سبب يوجب قتله: فساد لا يحبُّه الله ورسوله. وإذا لم يقتل يُرجى له الإسلام، كالعصاة من المسلمين. ([16])

ثم يتحدث عن الدليل الثامن وهو دعوى إجماع الفقهاء على أن جهاد الطلب فرض كفاية

وعلى وجوب الغزو مرة كل سنة، وقد ذكر اختلاف الفقهاء حول هذه المسألة ، فليس عليها إجماع، وبالتالي لا يمكننا الاستدلال بالإجماع هنا يقول الشيخ: لا يوجد إجماع في هذه القضية، فقد وجد من الأئمة مَن قال: إن الجهاد كان فرضا على الصحابة وحدهم. كما حكى ذلك الحافظ في (الفتح)، وكما روى مسلم، عن ابن المبارك في توجيه حديث: "مَن مات ولم يغزُ، ولم يحدِّث نفسه بالغزو فقد مات على شعبة من النفاق"، أن ذلك كان في شأن الصحابة. وقال النووي: إن هذا محتمل.

كما وجد من الصحابة والتابعين والأئمة مَن قالوا: إن جهاد الطلب تطوُّع لا فرض، كما نقل ذلك الإمام أبو بكر الرازي (الجصاص)، وابن أبي شيبة، وغيرهما، عن ابن عمر رضي الله عنهما، وعن عطاء وعمرو بن دينار من التابعين، وعن ابن شُبرُمة وسفيان الثوري من الأئمة. ([17])

ويتحدث عن الدليل التاسع وهو: فلسفة إخضاع السلطات الطاغية، والأنظمة الجاهلية لنظام الإسلام، ويناقش الأستاذ المودودي والأستاذ سيد قطب في هذه الفكرة فيقول :

هناك فريق من إخواننا العلماء والدعاة المعاصرين، الذين لا نشكُّ في إخلاصهم لدينهم، وغَيْرتهم على إسلامهم، وصدقهم في توجُّههم: دافعوا عما ذهب إليه جمهور العلماء القدامى بحرارة وحماس، وتركوا لأسنَّة أقلامهم البليغة تصول وتجول، مدافعة عن الجهاد الإسلامي، وأنه (جهاد هجومي)، يعلن الحرب على العالم كله...

عيب هؤلاء الإخوة من العلماء والدعاة يتمثَّل عندي في آفتين رئيستين:

الأولى: أنهم يتحدَّثون عن هذا الأمر المختلَف فيه، وكأنه قضية إجماعية، أو كأنه معلوم من الدين بالضرورة، والأمر على خلاف ذلك...

الثانية: اتهامهم لكل مَن يخالفهم بالسذاجة والغفلة والبَلَه: من الناحية العقلية، وبالاستخذاء والروح الانهزامية: من الناحية النفسية...

وبعد أن ينقل فكرة الأستاذ سيد قطب من خلال تفسيره لسورة الأنفال يقول:

وإني - بعد نقل هذه الفقرات الطويلة - لا أملك إلا أن أُقدِّر للشهيد سيد قطب إخلاصه وحماسه في الدفاع عن قضيته، وأحيي قلمه البليغ على ما قدَّمه من اعتبارات لها وزنها وتأثيرها، تؤيِّد وِجهة نظره، وتهاجم المخالفين هجوما حاد النبرة، عالي الصوت، من شأنه أن يخوِّفهم، ويخرس ألسنتهم فلا تنطق، وأقلامهم فلا تكتب.

ومع هذا كله أودُّ أن أناقش في هدوء ما ساقه داعيتنا الأديب الكبير رحمه الله مبديا هذه الملاحظات الأساسية:

أولا: لم يكن الأستاذ دقيقا في عرضه لفكرة خصوم الجهاد الهجومي على العالم.

فلم يقل واحد من هؤلاء – ابتداء من محمد عبده ورشيد رضا وشلتوت ودراز وخلاَّف وأبي زهرة وحسن البنا والسباعي والغزالي، ومَن بعدهم – باعتبار الإسلام نظاما محليا مقصورا على وطن بعينه، فمن حقه أن يدفع الهجوم عليه في داخل حدوده الإقليمية.

بل اعتبره كل هؤلاء دعوة عالمية، من حقها أن تبلَّغ إلى العالمين، وأي وقوف في وجهها، أو صدٍّ عن سبيلها، أو عدوان على الدعاة إليها، يجعل لها الحق في الجهاد، تأمينا لحرية الدعوة، ومنعا للفتنة الصادَّة عنها

ثانيا: رفض الأستاذ قطب رحمه الله فكرة في غاية الوضوح والجلاء، وهي: أن الإسلام بطبيعة دعوته العالمية الإيجابية، وبصفته دعوة إلى تحرير البشر من الطواغيت، وتحرير الإنسان من العبودية للإنسان، وأنه ليس دينا مغلقا على نفسه، أو قانعا بالعزلة في أرضه، لا بد لدين بهذه القوة: أن تقاومه الجاهليات الحاكمة بأمرها في بلاد الله، وِفقا لسنة التدافع بين الخلق، فهو بهذا مضطَّر أن يخوض المعركة دفاعا عن رسالة الحق والخير والعدل والتوحيد.

ثالثا: أعلن الأستاذ سيد: أن الدعوة إلى الإسلام يمكن أن تكتفي بالجهاد بالبيان واللسان حين يُخلَّى بينها وبين الأفراد، تخاطبهم بحرية، وهم مطلقو السراح من جميع المؤثرات المادية السياسية، فهنا: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}، أما حين توجد تلك العقبات والمؤثرات المادية، فلا بد من إزالتها أولا بالقوة، للتمكُّن من مخاطبة قلب الإنسان وعقله، وهو طليق من هذه الأغلال.

وأقول للأستاذ رحمه الله: إن عصرنا هذا قد أتاح لنا أن نخاطب عقل الإنسان وقلبه في أنحاء العالم، بوسائل شتَّى: بالإذاعات الموجَّهة، والقنوات الفضائية، وشبكة الإنترنت، والرسائل المكتوبة بشتَّى اللغات، وهذه تحتاج منا إلى جيوش جرَّارة من الدعاة والمعلمين والإعلاميين المدرَّبين، القادرين على مخاطبة الناس بلغاتهم

رابعا: نسى الشهيد رحمه الله: الآيات والأحاديث الكثيرة التي قيَّدت القتال المطلوب بأنه لمَن قاتلنا، ونهتنا عن الاعتداء: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا} [البقرة:190]، {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً} [النساء:90]...

خامسا: إن سيد قطب بتوجهه هذا وتفكيره هذا: يعادي العالم كله، مَن سالمه ومَن حاربه على حدٍّ سواء، مَن عاهده ومَن لم يعاهده، ويتحدَّى العالم كلَّه، ويستنفرَّ العالم كلَّه ليقف ضدَّ المسلمين، فهم خطر على العالم كلِّه إذا ملكوا القوة والقدرة، ترى ماذا سيكون مصير العالم لو ملك المسلمون ما تملكه أمريكا اليوم من قوة عسكرية، وقوة اقتصادية، وقوة علمية وتكنولوجية، وأسلحة نووية؟ إنهم لا شكَّ سيُخضعون العالم كله لسلطانهم، وهذا ما تريده أمريكا اليوم: إخضاع العالم لفلسفتها وإرادتها.

سادسا: كان الأستاذ سيد قاسيا شديد الوطأة على مخالفيه، فهم – عنده - المهزومون رُوحيا وعقليا، الموسومون بالسذاجة والبَلَه، الغافلون عن منهج الإسلام وطبيعة دعوته، ومخالفوه هؤلاء هم أعلام الأمة وعمالقة الفكر والفقه والدعوة.

ثم يختم هذا الباب الهام بأدلة المسالمين أو الداعين إلى السلم ، وكل ما استدل به هنا سبق أن تحدث به أثناء النقاش ونذكر من هذه الأدلة :

عنهم، بجملة وافرة من الأدلة كذلك، نجملها فيما يلي:

1- دعوة الإسلام إلى السلم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208]، وقد فُسِّر {السِّلْمِ} في الآية: بالموادعة وترك الحرب، كما فُسِّر بالإسلام وشرائعه كافَّة.

2- قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة:190]، فشرع قتال مَن قاتلنا، ومفهومه عدم قتال مَن لم يقاتلنا، ونهى عن الاعتداء ومنه قتال مَن سالم.

3- منعه - في سورة النساء - صراحة عن قتال مَن سالمنا، بقوله تعالى: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً} [النساء:90...

4- أمره سبحانه بالجنوح للسلم - حتى بعد وقوع القتال - إذا جنح لها العدو، وإن كان يريد الخداع، قال تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ} [الأنفال:62،61].

5- أمر الله تعالى لرسوله بالتولِّي والإعراض عن المشركين إذا لم يستجيبوا لدعوته، ولم يُؤمر بقتالهم، ففي سورة التوبة: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [الآية:129]...

6- وضع دستور المسالمة والمحاربة في آيتين من سورة الممتحنة: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة:9،8].

7- حديث الرسول المتفق عليه: "لا تتمنَّوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية ...".

8- قراءة صحيحة للسيرة النبوية ولغزوات الرسول صلى الله عليه وسلم.

9- قراءة صحيحة لفتوحات المسلمين: أنها كانت ردًّا لعدوان، أو منعا لفتنة المؤمنين.

10- بيان أن عِلَّة القتال هي: الاعتداء والحِراب والفتنة في الدين. وليست مجرَّد الكفر، {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6].

11- فلسفة الإسلام في كسب الناس بالسلم، والدعوة بالحُجَّة الإقناع، والأسوة الحسنة.

_________________

[1] - فقه الجهاد1/ 240 – 241 .

[2] - فقه الجهاد1/ 243- 245 .

[3] - فقه الجهاد1/ 252 .

[4]- مقدمة كتاب الدعوة لأرنولد صـ5.

[5]- من كتاب (أهمية الجهاد) للعلياني صـ262.

[6] - فقه الجهاد1/ 253 - 254 .

[7] - فقه الجهاد1/ 257 .

[8] - فقه الجهاد1/ 268 - 269 .

[9] - فقه الجهاد1/ 281 - 282 .

[10] - فقه الجهاد1/ 282 - 283 .

[11] - فقه الجهاد1/ 282 - 283 .

[12] - فقه الجهاد1/ 315 - 326 .

[13] - فقه الجهاد1/ 327 - 337 .

[14] - فقه الجهاد1/ 339 - 364 .

[15] - فقه الجهاد1/ 339 - 364 .

[16] - فقه الجهاد1/ 373 - 383 .

[17] - فقه الجهاد1/ 385 .

المصدر
LihatTutupKomentar